ناصر بن سالم اليحمدي:
الإنسان العماني على مدار تاريخه لم تقهره الظروف، ولم تكسره التحديات مهما عظمت، واستطاع بإرادته الحديدية وعزيمته الفولاذية أن يقف في وجْه الصعاب ويتغلب عليها، فهو لا يعترف بالمستحيل طالما يضع طوال الوقت نصب عينيه تحقيق الاستقرار والمستقبل المشرق.
وحينما تعرضت السلطنة للإعصار المداري "شاهين" الأسبوع الماضي لم يكن هذا الإعصار الحالة المناخية الأولى من نوعها التي تمر بها البلاد.. فما أن هبت الرياح العاتية والأمطار الغزيرة والمياه الجارفة حتى قال كل مواطن في نفسه "ما أشبه اليوم بالبارحة" لأن هذه الظروف ذكرته بالأنواء المناخية "جونو" و"فيت" و"مكونو" وغيرها من الأنواء التي مرت عليه عبر تاريخه والتي سجلها في مخطوطاته.. ولكن ما يثير الفخر والزهو هو الهبّة الوطنية والملحمة الإنسانية التي تعقب كل محنة.. فقد أثبتت التجارب والتحديات والظروف الصعبة أن الإنسان العماني لم يتغير وظل على عهده الأخلاقي كما كان دائما يتسم بالتعاون والمحبة والتكافل والمؤازرة والنخوة وغيرها من المعاني النبيلة ليجسد الإخاء بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأن المجتمع العماني الوفي كان وما زال كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له بقية الأعضاء بالسهر والحمى.
إن ما شاهدناه من استنفار عام للفرق التطوعية والمتبرعين ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية والأهلية رسم لوحة وطنية تكافلية أدهشت العالم وجعلت الشعوب ترفع القبعة للعُمانيين احتراما وتقديرا وإعجابا بما قدموه من تكاتف وتكافل وتلاحم وطني، إلى جانب الإشادة بالاحترافية في إدارة الأزمات التي تعاملت بها الحكومة، سواء خلال الإعصار أم بعده.
لقد اتجه آلاف المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي من كل محافظات وولايات السلطنة إلى محافظتي شمال وجنوب الباطنة وهم محملون بأطنان من المؤن والمساعدات الغذائية والدوائية وزجاجات المياه وغيرها من الاحتياجات الأساسية؛ ليقفوا جنبا إلى جنب مع المؤسسات الحكومية المختلفة لإعادة إعمار المنطقة المنكوبة.. وقد وضعوا أهدافا سامية للاهتداء بها وهي تضميد جراح المتضررين من الإعصار، والجراح هنا لا تكون جسدية بقدر ما هي نفسية فقد أشعروا كل مواطن بالمحافظتين أنهم بجانبه يتطوعون لمساعدته ويواسونه في مصيبته ويزيلون معه يدا بيد الطمي والطين والمخلفات المتراكمة التي شوهت منزله ومزرعته وطريقه ومشروعه الصغير ويصلحون ما تلف من ممتلكاته وغير ذلك من جوانب المساعدة والمؤازرة.. وهذا هو التكافل الحقيقي الذي بني عليه المجتمع العُماني والذي يظهر وقت الشدة.
إن ما نقلته كاميرات التليفزيون والهواتف النقالة يثير الحزن على ما سببه الإعصار من أضرار كارثية، سواء بالنسبة للبنية التحتية لبعض الولايات كالسويق والخابورة وصحم والمصنعة أو لممتلكات المواطنين ومشاريعهم الصغيرة والمتوسطة.. وهنا يثور تساؤل كيف يمكن تفادي مثل هذه الأضرار في المستقبل؟
من الواضح أن الأنواء المناخية تتكرر كل فترة، وأصبحت متقاربة زمنيا إلى حد كبير بعدما أصبحت تحل علينا ضيفا سنويا تقريبا بسبب ما يواجهه العالم من احتباس حراري والذي ضاعف بشكل كبير من الكوارث الطبيعية التي صارت تضرب معظم بلدان العالم وتدمر مظاهرها الحضارية.. وتتميز بلادنا بالتنوع في تضاريسها والتي منها السهول المنبسطة والأودية والمنخفضات والسواحل ومعظم هذه المناطق تعاني من أضرار شديدة عند حدوث أعاصير أو حتى هطول أمطار غزيرة وتسارع في سرعة الرياح.. وللأسف حينما رسمت نهضتنا المباركة بأناملها الذهبية مخططات التقدم والحضارة لم تضع في حسبانها الظروف الاستثنائية التي قد تمر بها البلاد، وبالتالي أصبحت المدن والقرى بما فيها من منازل ومزارع وسيارات ومشاريع في مرمى الأنواء المناخية القوية ومع أول جريان للأودية تغرق هذه الممتلكات.
لا شك أن مد يد العون والمساعدة وإعادة إعمار ما تهدم ليس حلا مثاليا ودائما وشاملا؛ لأن إصلاح الأضرار والتعويضات التي يحصل عليها المتضررون ستشكل عبئا يثقل كاهل الموازنة العامة للدولة لو تكررت الأنواء المناخية بصورة متقاربة زمنيا.. لذلك يجب سريعا إعادة تخطيط المدن والقرى التي تقع في مرمى الأودية وعلى السواحل حتى لا تتكرر هذه المآسي مرة أخرى فنكون كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا فنعمل على إنشاء وسائل دفاعية بشكل ما تحمي الولايات من السيول والفيضانات والأعاصير حتى تقل قيمة الأضرار على أقل تقدير وكذلك يمكن إعادة بناء المنازل المتضررة في أماكن مرتفعة بعيدا عن مجاري الأودية ومنافذ السدود وغير ذلك من المخططات والحلول المنوط بتقديمها المحافظون والولاة كل في مكانه حتى تكتمل الخريطة وتسير عليها الجهات المعنية لتنفيذها.. كما يجب كذلك مطالبة المجتمع الدولي بضرورة اتخاذ قرارات حاسمة للحدِّ من ظاهرة الاحتباس الحراري التي أصبحت تدمر ما يبنيه الإنسان من حضارات ومظاهر للتقدم.
قلوبنا مع من تضرر منزله أو سيارته أو محاصيله الزراعية أو حيواناته وغيرها من ممتلكاته الشخصية، وكان الله في عونه وأخلفه خيرا منها.. وكل الشكر والتحية لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأهلية على جهودها المتميزة لإعادة الحياة لطبيعتها في الأماكن المنكوبة بعدما رفعت شعار لا مجال إلا للتعمير والبناء.. وكل الشكر والتحية للشعب العماني الأبي الذي قدم نموذجا مشرفا للإنسانية والوطنية والإخلاص.. وحفظ الله بلادنا من كل شر وسوء.