د. جمال عبد العزيز أحمد:
وُلِدَ الرسولُ الكريم، وكان العربُ متفرقين، مختلفين، ولأهونِ الأسباب يتحاربون، وما حرب داحس والغبراء، تلك التي استمرت أربعين سنة عنا ببعيد، وزهقت فيها أرواحٌ، وراحت نفوسٌ، فجاء المصطفى، وبسيرته العطرة، فعاد الناسُ إخوةً متحابين، يخاف أحدُهُم على أخيه أكثرَ من خوفه على نفسه، وأمست الأخوة بين العرب مضربَ الأمثال، حتى كان الواحد من المهاجرين ينزل على الأنصاري فيقاسمه الأنصاري بيتَه، حتى قرأنا في سيرتهم المباركة أن أحدهم قالل لأخيه:(انظر مالي هذا أشاطرك إياه، ولي زوجتان، أطلق إحداهما لك، فتتزوجها)، فكان المهاجري يقول بكل نبل، وتسام:(بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق)، فيذهب، ويبيع، ويشتري، ويكسب، ويتزوج من عرق جبينه، وتعب يديه، فلا تجد بينهما إلا الكمال الإنساني في أروع صوره، وهذا بالفعل ما حدث من تآخٍ بين عبدالرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ وسعد بن الربيع، فقد آخى الرسول الكريم بينهما، فقام سعد بن الربيع إلى عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنهما ـ يقول:(هَلُمَّ، أقاسمْك مالي نصفين، ولي امرأتان، فأطلق إحداهما، فإذا انقضتْ عدتها، فتزوجها)، فقال
عبد الرحمن ـ يقابل الإحسان بأكثر منه نبلا وأخوة:(بارك الله لك في أهلك، ومالك، دلوني على السوق)، فدلوه على السوق، فما رجع يومئذ إلا ومعه شيء من أقط، وسمن، قد استفضله، فرآه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) وعليه وضَرُ صفرة، (أي: أثر من ريحة زكية وملبس جديد وجميل)، فقال: مهيم يا عبد الرحمن؟أي: ما هذا الجمال الذي أراك فيه؟!، ما الذي وراءك، ومَنْ أنزلك هذا المنزل الكريم؟، فقال عبد الرحمن:تزوجت امرأة من الأنصار، فقال: كم أصدقتَها؟ أي كم دفعت لها من المهر، أو الصداق؟ فقال: نواة من ذهب، أو زِنَة نواةٍ من ذهب، فقال النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم): أولِم، ولو بشاة)(رواه البخاري عن عبد الرحمن بن عوف برقم: 2048)، ومات سيدنا عبد الرحمن بن عوف يومَ مات، لا يعرفون ثروتَه، من كثرتِها، وبركة الله له فيها، فرحم الله عبدَ الرحمن بن عوف، وسعدًا اللذين رباهما الرسول الكريم على كمال الأخوة، ونبلها، وعمق محبتها، وجلال أثرها، فكانا مثلين لكل معاني الحب، والتآخي، وسجَّلا للدنيا هذا السمو النادر، وهذا الكمال الإنساني.
وكونه (صلى الله عليه وسلم) يقول:(أولِم، ولو بشاة)، أيْ: أن عبد الرحمن بن عوف معه ما يجعله يُولِم بأكثرَ من ذلك، لما قام به من كسب يده، وعفته عن مال أخيه، رغم صدق أخيه سعد بن الربيع، وحبه أن يقاسمه أمواله، وأهله، رحم الله كبار النفوس، أصحاب الأخلاق السامية، والنفوس العالية التي تَرَبَّتْ على موائد الإسلام، وكان ولادته (عليه الصلاة والسلام) سببًا في ميلاد هؤلاء من جديد، وفرحة الدنيا بهم، وبفعالهم، وها هو ذا التاريخ يروي صنيعَهم، بكل فخار، ويُعِيد قراءة ما قدمتْه أيديهم بكل تعجُّب، واندهاش، وانبهار، ويعيشه بكل نبل وعز وفخار.
وُلِدَ الرسول، فوُلِدَ العدلُ كله، وراح من الأرض الظلم، وساد بين الناس كلُّ معاني الكمال، لم يكن يقف أمام عدله ضخامة، ومكانة الرجل الذي ظلم، أو تعدى، أو سرق، وما كان يتهاون في حدٍّ من حدود الله، فاستقر العدل، وتذوق الناس طعم الاستقرار، وعرف الظالم أنه لا يمكنه أن يستمرَّ ظلمه، فقد انتهى عهد الاستعباد، تعرفون حادثة المرأة المخزومية، وموقف الرسول منها، فتروي السيدة عائشة ـ رضي الله عنها وأرضاها ـ أن قريشًا أهَمَّهم شأنُ المرأة المخزومية (وبنو مخزوم من أشراف العرب، وساداتهم، ومنهم خالد الوليد ـ رضي الله عنه) هذه المرأة سرقت في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم؟، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي: حبيبه الذي يحبه حبًّا شديدًا، فأتى بها رسول اللهـ صلى الله عليه وسلم ـ فكلمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلمـ وقال: أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله. فلما كان العشي قام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاختطب، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسُ محمدٍ بيده لو أن فاطمة بنتَ محمدٍ سرقت لقطع محمد يدها، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقتْ، فقُطعتْ يدها. نعم أقيم العدل في ربوع الأرض، ولم تَعُدْ ثمة محاباة ولا نفاق، ولا جمائل، فاعتدل القوم، واستقامت الحياة، وتوطدت أركانُ المجتمع، والبيوت، والأسر، حتى كان يقيم العدل على نفسه الشريفة حتى يكون قدوة للعالمين في كل مكان، وكل حين، فقد ورد أنه كان يعدل الصفوف يوم بدر، وفي يده قدْحٌ من يعدل به الصفَّ، فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار، قال ـ وهو مستنتل من الصف ـ فطعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقدح في بطنه، وقال: استوِ يا سوادُ. فقال: يا رسول الله، أوجعتَنِي، وقد بعثك الله بالعدل، فأقِدْنِي. قال: يا رسول الله، إنك طعنتني، وليس عليَّ قميص. قال: فكشف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بطنه، وقال: استقد. قال: فاعتنقه، وقَبَّلَ بطنَه، وبكى، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟. فقال: يا رسول الله، حضرني ما ترى، ولم آمن القتل:(يعني الموتَ في سبيل الله في معركة بدر الكبرى)، فأردتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له الرسولُ بخير، وفي رواية، أنه دعا له بخير، وقرأ قوله تعالى:(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء ـ 69).
* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.
[email protected]