محمود عدلي الشريف:
لقد كان الكون كله في أشد الاحتياج إلى الرسول العظيم محمد (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) بكل ما فيه وبما هو عليه، فقد أظلم على الكون جهل الكفر وغيم عليها الشرك، وأصبح الكون كما هو الحال اليوم يتخبط في ظلمات المادة والطبيعة، إلا أن الحال اليوم له منقذ يخرج هذا الكون من الظلمات إلى النور، وبالطبع يتمثل في هدي محمد ورسالته العصماء التي حفظها الله تعالى بكل مافيها وخاصة كتابه المعجز للأهل كل زمان ومكان، فقديمًا لم يكن للكون منقذ من تلك الغياهب الحائرة، وتلك العقول التائهة في حقول الجعل الجافة والمترامية الأطراف، ولهذا كان من الضروري أن يمن الله تعالى على خلقه بمن يقود سفينة الكون المتقلقلة في خضم أمواج عاتية إلى شاطئ الأمان والنور والهدى، الأمر الذي أضاء للبشرية دربها إلى اليوم، غير أن النفس والهوى وقصر النظر وظلمة البصيرة تجهل بعض الخلق يضلون عن سبيل الله، وإن كانت الأنوار أمام أعينهم متلألئة، وأضواء القرآن منشرة أشد من ضوء الشمس في كبد السماء، ولكن هيهات أن يرى من ذهب من عينيه البصر أن يبصر نور القرآن المشرق، ولكن ودائمًا بعد أن تضع تلك المعركة أوزارها نجدها تنتهي بفوز الإسلام عمن سواه، وهذا ما لا ينكر عاقل، فنكاد نجزم أن كل تقريبًا يدخل في الإسلام أنس جدد، لأن عقولهم أقنعتهم بالله الخالق العظيم وبمن دلَّ عليه وهو الرسول الكريم والذي ترك لنا ذلك النور مُتصلًا فلا ينقطع أبدًا، يهتدي به كل من يقرأه إذا تجرد من الهوى العناد، وهذا الأمر بهذه الصورة والدقة والتحدي، ليس بالسهل حيث إن الله تعالى يعلم ما يطرأ على العقول والقلوب عبر الزمن منذ نزوله وحتى تقوم الساعة من تطور وتقدم وعلوم، ولهذا اقتضت العناية الإلهية أن يكون هناك ترتيب وتدابير جمة لكي يصل هذا النور إلى الناس كاملًا وغير منقوص.
ولو تأملنا تلك التدابير حسب علمنا القاصر وفهمنا المحدود لوجدنا أنها بدأت قبل مولد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، بل إرادة الله تعالى اقتضت أن يكون اختياره على أساس مميز ونادر لا يتفق مع بشر مثله، ولهذا كان اختياره في حد ذاته معجز للبشر، ومقنع لأعداء رسالته نفسها،فالناس الآن في ظل هذا التقدم المبهر للعقول، عندما يكتشف منهم مكتشف لشيء على مستوى أي علم، ثم يفاجأ بأن القرآن قد جاء به أوضح مما اكتشفه، سرعان ما يسأل وأين نزل هذا الكلام فيقال نزل على رجل يسمى محمد فيقول أن اكن يعيش فيقال كان يعيش في جزيرة العرب منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فما عليه إلا أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أن أنه يتخبط في تقلبات الهوي والعند، الأمر الذي يظهر لنا كيف أسلم كثير وكثير من علماء العالم في كل زمان وعلى شتى البلدان، إذن فاختيار محمد في زمانه ومكانه ونسبه في حد ذاته معجز، ولم يكن عشوائيًا بل كان بإذن من أخبرنا عن ذاته، فاختيار العناية الإلهية للذات المحمدية البشرية النورانية إنما كان لحكمة واضحة ولبينة سانحة، والدلائل على ذلك كثيرة ووفيرة، وأولاها: اختيار الله تعالىلأبيه وأمه: فالمتأمل في مواصفات القاسية لولادة أعظم شخصية نبوية طاهرة، تتجلى في اختيار آبائه وأمهاته وتتضح بكل معجزة باهرة، وقد جاءت دلالة قوية ومعجزة قرآنية، وقد (اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ويرى تقلبك في صلاتك حين تقوم، ثم تركع، وحين تسجد.وعن ابن عباس قوله:(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يقول: قيامك وركوعك وسجودك)(جامع البيان للطبري، ت شاكر 19/ 411)، إلا إنه جاء في (تفسير مقاتل بن سليمان 4/ 33) معناها:(استخرجك من أصلاب الرجال وأرحام النساء وأخرجك من صلب عبد الله طيبًا)، وهنا دلالة أيضًا جاءت في (تفسير السمرقندي المسمى بحر العلوم 2/ 570)، ويقال:(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يعني: تقلبك في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات من آدم إلى نوح، وإلى إبراهيم، وإلى من بعده ـ صلوات الله عليهم،وقوله عز وجل:(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يعني:بآبائهم وبأعمالهم. بل إن ابن عطية ذكر في تفسيره(المسمى المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 4/ 246)، وقال ابن عباس أيضًا وقتادة: أراد تقلبك في المؤمنين فعبر عنهم بـ(السَّاجِدِينَ)، وقال ابن جبير: أراد الأنبياء أي تقلبك كما تقلب غيرك من الأنبياء، وقد أكد هذه الدلالة القرطبي في تفسيره (13/ 144):(قال ابن عباس: أي في أصلاب الآباء، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيًا)، وأكد ذلك ابن أبي حاتم ـ محققًا (9/ 2828):(عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قَالَ: مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى أَخْرَجَكَ نَبِيًّا.نبأ عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَتَقَلُّبَكَ في الساجدين قَالَ: مَا زَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَتَقَلَّبُ فِي أَصْلابِ الأَنْبِيَاءِ حَتَّى وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)(تفسير ابن أبي حاتم ـ محققًا (9/ 2828)، وروىالبخاري في الصحيح، في كتاب المناقب (باب) صِفَةِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(قَالَ رَسُولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلّم:بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه)(دلائل النبوة للبيهقي ـ محققًا (1/ 166). وعند ابن سعد، وعند ابن عساكر في (تهذيب تاريخ دمشق الكبير) (1: 278):(عن أنس، قال: قرأ رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم:(لقد جاءكم رسول من أنفَسكم) بفتح الفاء، وقال: أنا أنفسكم نسبًا وصهرًا وحسبًا ليس في إبائي من لدن آدم سفاح، كلنا نكاح)، وعن ابن عباس، قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم):(خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح).وذكر صاحب (بهجة المحافل وبغية الأماثل (1/ 44)نقلًا عن الرازي قوله: وقال الفخر الرازي في التفسير:إنّ آباء النبي (صلى الله عليه وسلم) ما كانوا كفارًا لقوله تعالى:(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)، ولقوله: لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين الى أرحام الطاهرات، ولقوله تعالى:(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) فوجب ان لا يكون أحد من آبائه مشركًا نجسًا لوصفه (صلى الله عليه وسلم) لهم بالطهارة انتهى، وعليه فالجواب عن حديث:(إنّ أبي وأباك في النار)إنّ المراد (أبو طالب) لان العرب تطلق على العم أبًا مجازًا، وقال السخاوي وقول من قال إنّ آباء النبي (صلى الله عليه وسلم) ما كانوا كفارًا، لعل المراد به الخصوص لا العموم أي: غالبهم فإنّ آزر أبا ابراهيم من عموم آبائه (صلى الله عليه وسلم)، وفِي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ) مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ شَدَّادٍ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ).وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:(حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: بَلَغَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم ـ وَبَعض مَا يَقُول النَّاس قَالَ: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا،صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا أَبَدًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)(السيرة النبوية لابن كثير 1/ 191)، ومن أجمل ما ذكر عن ذلك وأختم به هذه الحلقة في (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (1/ 235)ذلك مما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، فإنه نخبة بني هاشم وسلالة قريش وأشرف العرب وأعزم نفرا من قبل أبيه وأمه، ومن أهل مكة أكرم بلاد الله تعالى علي الله وعلى عباده، وأعداؤه (صلى الله عليه وسلّم) كانوا يشهدون له بذلك ولهذا شهد له به عدوّه إذ ذاك أبو سفيان بن حرب بين يدي ملك الروم، فأشرف القوم قومه وأشرف القبائل قبيلته وأشرف الأفخاذ فخذه (صلى الله عليه وسلم) .. ومع دلالة أخرى نلتقي بإذن الله تعالى.

[email protected]*