د. محمد بن حمد الشعيلي:
لطالما كانت الدول العظيمة معرضة في تاريخها وفي واقع أوضاعها المختلفة لكل الاحتمالات، سواء الجوانب المرتبطة بالعزة والفخر، أو الجوانب الأخرى التي يمكن أن تشهد فيها حالة من عدم الاستقرار وتباين الأوضاع، وقد شهدت عُمان في معظم فتراتها ـ ولله الحمد ـ مظاهر القوة والعزة والازدهار، غير أنها في فترات معيَّنة شهدت بعض الضعف والتدهور والانكسار، ولكن الجميل في ذلك أن العُمانيين كانوا في كل مرة يهبون لنصرة الدولة ووحدتها وحمايتها من المخاطر الداخلية والخارجية وصونها، وكان التكاتف والاتحاد دائما يتحقق عندما يكون الأمر متعلقا بسلامة وأمن هذا البلد العزيز، والعمل على إعادته مرة أخرى قويا كما كان.
ويحفل التاريخ العُماني بالكثير من النماذج المشرفة التي تظهر حجم التآزر بين العُمانيين في أوقات الشدة، في مختلف الأصعدة، السياسية منها والعسكرية وكذلك الاجتماعية، ولكن ما شهدناه من تكاتف في الآونة الأخيرة لمواجهة ما حدث بسبب الحالة المدارية (شاهين) يُعد من الاستثناءات المميزة في التاريخ العُماني، عندما هب العُمانيون، قيادة وحكومة وشعبا، فرادى وجماعات، لنصرة وطنهم الذي تعرض لواحدة من أصعب المواقف في تاريخه المعاصر، رغم أن (شاهين) لم يكن الإعصار الأول الذي تتعرض له السلطنة بهذا الحجم، ولكنه أصبح الأكثر حضورا فيما رأيناه من تكاتف ومن تعاضد بين مختلف مكونات المجتمع، في تجربة أذهلت القاصي قبل الداني، وقدمت من خلاله عُمان درسا للجميع في آلية التعامل مع مثل هذه الأزمات، وفي كيفية العمل على تجاوز آثارها بالجهود الذاتية.
وعندما نعود إلى الوراء قليلا، وتحديدا إلى عام 2007م عندما شهدت السلطنة إعصار (جونو)، والذي يُعد من أقوى الأعاصير التي تعرضت لها عُمان عبر تاريخها، والذي وصلت درجته إلى الخامسة، فبقدر الألم الذي صاحب تأثيرات ذلك الإعصار، بقدر الفخر بالملحمة البطولية التي سطرها العُمانيون يومها، عندما حرصوا وبكل اقتدار على انتشال بلادهم مما مرَّ بها من محنة في تلك الفترة، معتمدين على إمكاناتهم الذاتية فقط، دون الحاجة إلى طلب المساعدات الخارجية رغم تعاطف الدول الشقيقة والصديقة يومها مع عُمان وشعبها، ورغم حالة الدمار التي أصابت أجزاء كبيرة من البلاد، ولكن الفكر السامي والرؤية السديدة لجلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ تمثلت في أن تعتمد عُمان على نفسها وعلى إمكانات شعبها، وهي الرؤية التي أثبتت صوابها، وخرج منها أبناء عُمان بفوائد جمة، في مقدمتها أن حمل الوطن على أكتاف أهله وعلى إمكانات شعبه شعورا لا يضاهيه شعور آخر، وبأن العُمانيين قادرون على تعلم الكثير من هذه الظروف، وعلى اكتساب الخبرات من هذه الأزمات، وهو ما تحقق بالفعل في مواجهة الحالات والأنواء المناخية التي تعرضت لها عُمان في العقدين الماضيين.
ومنذ الإعلان عن قرب اقتراب الحالة المدارية (شاهين) من سواحل السلطنة، عملت الجهات المختصة على التعبئة الشاملة للتحذير من خطورة مما هو قادم، والمطالبة بإخلاء المساكن القريبة من الشواطئ، وإعداد مراكز للإيواء مهيأة للتعامل مع مثل هذه الحالات الطارئة، واستنفرت الأجهزة المدنية والأمنية والعسكرية كل طاقاتها وتسخيرها من أجل سلامة الجميع من مواطنين ومقيمين، الأمر الذي كان له أثر كبير في الحدِّ من الخسائر البشرية الهائلة ولله الحمد.
وعندما كشفت الحالة المدارية عن حجم الدمار الكبير الذي أصاب بعض ولايات محافظتي شمال وجنوب الباطنة، خصوصا ولايات السويق والخابورة وصحم، تسارعت الجهود من أجل احتواء الأضرار وإعادة الحياة إلى وضعها الطبيعي، ورفع المعاناة عن كاهل المواطنين الذين تأثرت أملاكهم وتبدلت أحوالهم بشكل كبير نتيجة هذا الحدث الجسيم، ومباشرة أمر مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ أعزَّه الله ـ بتشكيل لجنة وزارية لتقييم الأضرار الناتجة عن الحالة المدارية، وتقديم الدعم والمساعدة للتخفيف من وطأة الأضرار التي ترتبت عليها، وذلك في إطار حرص جلالته الدائم على الالتفاف حول شعبه، وإحاطتهم بعنايته الكريمة في مختلف الظروف.
وسيظل ما حدث يوم الثامن من أكتوبر خالدا في ذاكرة التاريخ العُماني، فيه من الدروس والعبر الشيء الكثير، استنهضت عُمان خلاله كل قواها وجل طاقاتها من أجل نصرة المتضررين في الولايات المتأثرة في مشهد أقل ما يمكن وصفه بالعظيم، عندما زحفت تدفقات بشرية هائلة من مسندم عُمان إلى ظفارها تشمر عن سواعدها وتسخر كل إمكاناتها من أجل الانتصار للأرض وللإنسان، في مشهد تجلَّى فيه الحرص المميز من القيادة والحكومة والشعب على تقديم صورة مثالية لمعنى التكاتف بين جميع الأطراف في تقديم الدعم والمساندة ورفع المعاناة عن المنكوبين، وأثبت أن عُمان بالفعل يد واحدة، وعلى قلب واحد، وبأن الألم هو ألم الجميع، فكان الميدان ترجمة حقيقية لكل المشاعر التي تجلَّت حول ذلك، في تجربة سيستمر الفخر حولها طويلا، وبأنه لا خوف على عُمان دام أنها استثمرت في أبنائها تلك القِيَم، وغرست بداخلهم معاني التضامن والتعاضد، فكان كل ما شاهدناه في الأيام الماضية مفخرة وطنية بامتياز، فبارك الله في جهود الجميع بلا استثناء، ونسأل الله دائما وأبدا بأن يحفظ هذا الوطن الحصين أرضا وقيادة وشعبا من كل شر ومكروه، وبأن يديم على أهله الأمن والأمان والاطمئنان.