إبراهيم بدوي:
سعت اليابان منذ الهزيمة في الحرب العالمية الثانية نحو إقامة دولة متقدمة علميا واقتصاديا، وقدمت للعالم نماذج إدارية أسهمت في تقدمها الذاتي، بالإضافة إلى إثراء علم الإدارة على مستوى العالم بمفاهيم ربطت الجودة والتحسين المستمر بكافة مراحل الحياة عموما، وظهر في علم الإدارة مصطلحات مهمة كان لها دور كبير في التطوير الإداري مثل مبدأ (نيماواشي) والذي يُعنى بمناقشة المشاكل والـــحلول المحتـــملة مــع كــل الأشـــخاص الذين يتأثرون بها، وذلك لجمع أفكارهم والحصول على موافقتهم للمُضي قُدما، ومصطلح (هانسي) الذي يقوم على التفكير الدؤوب المتواصل بعد الانتهاء من مشروع ما لتحديد كافة مَواطن الضعف فيه، والعمل على وضع إجراءات مضادة لتجنُّب الوقوع في المشاكل نفسها ثانية، والـ(كايزان) وهي منهجية يابانية لتحسين الأداء، والتي تتبنى مبدأ التحسين المستمر لكل شيء اعتمادا على استخدام الأساليب المنطقية في الإدارة وتفعيل الاستخدام الأمثل للموارد دون الحاجة إلى تخصيص استثمارات وموارد جديدة، وهي المنهجية التي صنعتها المعجزة اليابانية والتي يمكن استخدامها في ظروف محدودية الموارد.
ومن رحم تلك المفاهيم الحديثة برزت أفكار إدارية عظيمة مكَّنت اليابان من العودة السريعة والتقدم المطَّرد المستمر حتى الآن، لكن أبرز الأفكار الإدارية التي ساعدت اليابان على النهوض من كبوتها وتصدرها كقوة اقتصادية كبرى طوال العقود السبعة الماضية هو حرصها على أن تكون القرارات التطويرية قادمة من كافة مراحل العمل، فالقاعدة الهرمية لديها دور مهم وملهم في الفلسفة الإدارية اليابانية، لا يقل عن القيادة العليا، فوفق الفلسفة اليابانية، القاعدة الهرمية هي الأكثر إدراكا بما تحتاجه المؤسسة، بصورة تجعل صنَّاع القرار في أعلى القمة الهرمية يأخذونها في الحسبان ويعتمدون عليها في رسم الخطط والبرامج التنفيذية.
ومن هذه المقدمة البسيطة نستطيع أن ندرك أن القيادة العمانية السامية تعمل على تأطير تلك القواعد الإدارية بشكل يجعل الشعب بكل فئاته مشاركا في صنع القرار في المقام الأول، بالإضافة لمعرفته بكافة تفاصيله، فالمتابع لجلالة السلطان هيثم بن طارق ـ حفظه الله ورعاه ـ أثناء إعداد رؤية "عُمان 2040" حرص على المشاركة الشعبية في وضع الرؤية التي بدأت السلطنة في تنفيذها عبر بوابة الخطة الخمسية العاشرة؛ لتكون رؤية تشاركية، حيث حرصت الإرادة السامية على أن تكون مشروعا وطنيا يستشرف المستقبل، ويتطلع إلى مزيد من التطوُّر وتحقيق الإنجازات وفق منظومة عمل طموحة تُسهم في صياغتها كل شرائح المجتمع وأطيافه، فقد روعي أن تتبنى الرؤية النهج التشاركي خلال مراحل إعدادها وتطويرها بما يضمن مشاركة كافة القطاعات الفاعلة ذات العلاقة والمتمثلة في شرائح واسعة من المواطنين، فضلًا عن القطاعات الحكومية وشبه الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني والشباب والمرأة والأكاديميين والإعلاميين والطلبة وذوي الإعاقة والأطفال.
فالرؤية السامية لجلالة السلطان المعظم حرصت مع استجلاب الطرق الإدارية والعلمية الحديثة جدا على مزجها مع الاحتياجات الحقيقية وخصوصية الشعب العماني، لذا كان النهج التشاركي خيارا ليس فقط لتحديد أولويات الرؤية وخططها وبرامجها، لكن أيضا خيارا يعمل على تطويرها تطويرا مستمرا يضمن لها النجاح المتواصل المستمر، وذلك باعتماد مجموعة من مؤشرات قياس الأداء الذكية، التي تتضمن مؤشرات لقياس توافر المدخلات، ومؤشرات تقيس تحقق النتائج أو وجود مخرجات ملموسة، ومؤشرات لتقييم تحقق الأثر، ليتم التأكد من التنفيذ المتقن للرؤية مع مرور السنوات.
إن اتخاذ النهج التشاركي كخيار سامٍ لم يتوقف فقط على رؤية "عُمان 2040" بل نجده يظهر جليا في اجتماع جلالة السلطان المعظم بحكومته مؤخرا، حيث أكد جلالته ـ أبقاه الله ـ أهمية إيجاد آليات وقنوات اتصـال مع الشباب لإيضاح كافة الجهود المبذولة لتلبية متطلبات مسيرة التنميـة فـي مختلـف القطاعـات، والاستماع إلـى تطلعـاتهم واحتياجـاتهم، موجهـا ـ أعزَّه الله ـ بقيـام أصـحاب المعـالي والسعادة المحافظين وبمشاركة الجهات المعنيـة بعقـد لقـاءات دورية مع الشباب لهذا الغرض ومناقشة المواضيع التي تحظى باهتمـامـهم، والاستماع إلى آرائـهـم ووجهـات نظـرهم، بمـا يساعدهم على أداء دورهم المنشود في الإسهام بمسيرة البناء والتنمية الشاملة لهذا الوطن العزيز.
ويبقى على الشباب الاستعداد لتلك الفرصة من خلال التعرف جيدا على متطلباتهم ورغباتهم بشكل يتواكب مع تطلعاتهم المستقبلية، فالشباب يجب أن يسعوا إلى بناء مستقبل يتقاطع مع دورهم الوطني، في بناء هذا الوطن، أسوة بالأجيال التي سبقتهم، دون انحصار الرؤية على المتطلبات الحالية، فالعمل على سعادتهم ورفاهيتهم في الحاضر شيء مهم، لكن يبقى الأهم هو صناعة مستقبل واعد يتركون به بصمتهم على نمو وطنهم ورفعة شأنه، فالكرة الآن أصبحت في ملعبهم وعليهم تحديد الخيار الذي يضمن تحقيق طموحاتهم الفردية، التي ستنعكس بالتأكيد على عُمان الحبيبة.