د. رجب بن علي العويسي:
تحتفل السلطنة بيوم المرأة العمانية، السابع عشر من أكتوبر، وسط إنجازات نوعية تحققت لها منذ أكثر من خمسة عقود مضت. ولئن كان الاحتفال بهذا اليوم وسام شرف وفخر بالمرأة العمانية، أُم وبنت وأخت وزوجة وغيرها، فهو تجسيد للمنظور الإسلامي العظيم الذي كرّم إنسانية المرأة ورفع قدرها وشرف مكانتها، لتسمو فوق السطحيات وتتجاوز تلك النظرات الضيقة التي تقرأ المرأة في غير هذا المسار، لذلك لم يعد طرح الاحتفال بيوم المرأة العمانية كتقليد رسمي يرصد الفرص التي تحققت للمرأة العمانية في مختلف مجالات التنمية، أو المسار الوظيفي الذي سلكته، والمجالات المهنية التي التحقت، بقدر ما هي محطة أكثر عمقا وتحليلا وقراءة تسلط على منظومة الوعي الحقوقي للمرأة بالدرجة الأولى، وتمكنها من توظيف الفرص لتحمل مسؤولية البناء والتطوير، ومشاركتها الرجل في صناعة القرار الاجتماعي والأسري والمهني، في إطار استحقاقات التمكن من إدارة واقعها، وتطوير ذاتها، وتجسيد حضورها في كل صفحات الإنجاز الوطنية المشرقة، في إشارة إلى أن الفرص التعليمية والتدريبية والاجتماعية والاقتصادية والأسرية والحقوقية والعمل والتوظيف والنوع الاجتماعي وغيرها التي تحققت للمرأة العمانية، وما جاد به التشريع العماني من منهج العدالة والمساواة بين الرجل والمرأة في الفرص والحقوق والواجبات والمسؤوليات، كونها ممكنات للانتقال بالمرأة العمانية من مستوى التمكين إلى التمكن، ومن العيش في الواقع المعتاد، إلى إعادة إنتاجه وتطويره بما يحفظ الثوابت الوطنية، ويؤصِّل أفضل الممارسات المجتمعية التي تصنعها إرادة المرأة، لتنعكس على كفاءة دورها القادم.
وبالتالي ما يمكن أن يؤسسه هذا التقليد الوطني السنوي في ظل المرتكزات الأصيلة التي بني عليها، والأولويات التي ارتبطت به، والموجِّهات التي يرسمها هذا اليوم في مَعِين القِيَم والأخلاق وبناء الأوطان ونهضة الإنسان، لتصنع من حضور المرأة في حياة المجتمع والأُمة قيمة مضافة تستفيد خلالها المرأة العمانية من المكتسبات التي تحققت لها في تعزيز فاعلية الدور القادم وكفاءة الممارسة الناتجة، لتظهر على شكل نماذج مضيئة، وتتجسد في منظومة وعي حقوقي متكاملة تتناغم مع روح التحول التي يجب أن تسري في تفاصيل عمل المرأة، بما يحفظ للمرأة دورها الحيوي في الاحتواء والتأثير وإعادة هندسة الذات وتصحيح القناعات، وتوفير نماذج عمل إيجابية قادرة على ترسيخ الوعي والتعاطي بإيجابية مع معطيات الحياة وظروفها، وغرس ثقافة القِيَم وتأكيد قيمة المواطنة والعمل التطوعي، من خلال ما تمتلكه المرأة من أدوات تشخيص واقع السلوك الاجتماعي في الأسرة والبيت وبيئة العمل، بشكل يتناغم مع طبيعة المسؤولية ومؤشرات السلوك الواعي والقِيَم الأصيلة وتقريبها من مدركات الأجيال الحسية والمعنوية، وأنماط التواصل اليومي، لتتضح الغاية من هذا التقليد في حجم المكاسب الحقوقية والتشريعية والقانونية والسياسات التطويرية التي تستهدف حماية المرأة ورفع درجة التمكن لديها في مواجهة معطيات الواقع في المجالات الاقتصادية والثقافية والفكرية والاجتماعية والتعليمية والابتكار، وريادة الأعمال، والوعي الحقوقي الناتج عن استيعاب الواجبات والمسؤوليات والاستحقاقات وكيفية التعاطي معها في ظل استثمار القواسم المشتركة بين الرجل والمرأة، وإشغال المساحة المتاحة عبر مد جسور التواصل والحوار وتقاسم المسؤوليات واحترام الأدوار وتكامل الأدوات، ويبقى توظيف ما أتاحته الدولة من منظومة حقوقية متكاملة ضَمِن النظام الأساسي للدولة تحقيقها، مثل حق التعليم والصحة والأمن والرعاية، وحقوق الجنسية، والمساواة بين المواطنين، والعدالة الاجتماعية وحرية التعبير عن الرأي، والحقوق المرتبطة بالحريات المدنية، سواء ما يتعلق منها بالحرية الشخصية وحرية الشعائر الدينية وغيرها كثير، مرهونا بمستوى الوعي الذي تمتلكه المرأة العمانية في قدرتها على توظيف هذه الحقوق في واقع حياتها، وتعاملها مع مستجداتها ومتطلباتها، روحا تسري في كل تفاصيل العمل. ويستمر هذا الدور للمرأة في تصحيح المفاهيم المغلوطة حول هذه الحقوق وما يثار بشأنها، وآلية الحصول عليها، وطريقة التعامل معها، والموجهات وأنظمة الثواب والعقاب التي تضبط مسارها؛ محطات تستهدف بذلك تمكن المرأة العمانية من إثبات بصمة حضور لها في الواقع الاجتماعي ورسم معالم القوة فيه.
ومعنى ذلك أن الاحتفال بيوم المرأة لا يجب اختزاله فيما يشار إليه من مكاسب مادية تحققت للمرأة، سواء كانت وظائف أو مِهنًا أو مسميات في المواقع العسكرية والأمنية والمدنية أو سرد منجز المرأة في احصائيات وأرقام، بل في محطات الإلهام التي صنعت منها المرأة العمانية مفخرة البناء الأسري والوطني في قيادة روح التغيير والمبادرة ونهضة الوعي وبناء الذات، والدخول في عمق الحدث الاجتماعي بما تصنعه من موجهات في البناء الفكري والنفسي والفسيولوجي للأجيال وإعدادهم لتحمل مسؤولياتهم في الحياة، ومستوى التأثير الإيجابي الذي تقدمه في حياة الرجل الشريك الآخر في المسؤولية، وقدرتها على تغيير العادات والسلوكيات الاستهلاكية في الوقت والجهد والمال والاهتمامات والأولويات التي باتت تمارس من قبل الأجيال في ظل بيئات مفتوحة، لتسهم ببصماتها في تغيير قناعاتهم بشأن العديد من القضايا الاجتماعية والسلوكية والقِيَمية بمستوى ما تمتلكه من مهارات واستعدادات وآليات الإقناع وأساليب مبتكرة في التعامل مع كل التحديات والمؤشرات الاجتماعية التي باتت تدق ناقوس الخطر، بحيث تجد المرأة العمانية في هذه المرحلة من التمكُّن فرصتها لابتكار بدائل واستراتيجيات جديدة تحتوي المرأة خلالها طبيعة التحول في سلوك أجيال الوطن وتضع له أساليب ناجعة في التعاطي مع مفرداته.
ويبقى الوعي الحقوقي للمرأة الطموح الذي يستوعب كل المتغيرات، ويحتوي كل التفاعلات، ويؤسس لملحمة البناء الوطني التي تنصهر فيها كل الاختلافات وللتباينات، لتقف بعمق بصيرة على المشكلات الاجتماعية، وإيجاد الحلول الفاعلة لفجوة الحوار وسوء الفهم في العلاقات الزوجية التي باتت اليوم أحد التحديات التي تواجه البناء الأسري، وتتطلب تمكُّن المرأة من إدارة واقعها بطريقة نوعية تتجاوب مع رغبة التآلف والمودة والحب والتعاون. إنها بذلك تصنع للتنمية نماذجها الراقية وكوادرها المجيدة وقياداتها الواعدة، وتتشارك معهم تحدياتها وطموحاتها وآمالها، وهي في كل المواقع تضع مساحات التقييم والمراجعة خطواتها في تجاوز أي خلل أو مواصلة صعود سلّم النجاح والتميز. إن الاحتفال بيوم المرأة محطات راقية في مسيرة بناء الإنسان وكرامته في عُمان، وفضاء متجدد للمرأة لإنتاج حلول للواقع الذي تعيشه في ظل ارتفاع معدلات الطلاق والمشكلات الأسرية الأخرى، وفي ظل تزايد أعداد الباحثين عن عمل من النساء، وارتفاع أعداد الإناث الحاصلات على مؤهل جامعي، ناهيك عن تقارب نسبة ما تشكله المرأة العمانية في السلم الإحصائي مع الرجل إلا قليلا، كل ذلك يضع المرأة العمانية أمام قبول لهذا التحدي، وقدرتها على التحليق في سماوات الإنجاز والعطاء، ترسيخا للثوابت الإيمانية وقواعد الإسلام الأصيلة التي كرّمت المرأة وأعلت شأنها، والنهج العماني المستمر الذي عزز من استحقاقات المرأة وحفظ لها حقوقها.
أخيرا، فإن على المرأة العمانية وهي تحتفل بهذا اليوم الواعد الذي أراده لها المغفور له بإذن الله تعالى باني نهضة عُمان الحديثة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ استحقاقا وطنيا لدورها العظيم في مسيرة البناء الخالدة، واستلهاما للتوجيهات السديدة لمجدد النهضة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ أن تجسد هذه الثقة في كل منصات العطاء ومحطات العمل، لتقرأ في هذه الأفكار الأحادية، والمنطلقات الفكرية المتشددة التي تحول المرأة من إنسان مفكر إلى حالة سطحية تنهش منها الذئاب ويتعاطى معه البشر بالمزاج، خروجا عن المبدأ، وانحرافا عن النهج، وسقوطا في وحل الدناءة والضلال، لتقف المرأة العمانية شامخة في وجه صيحات التغريب، والإلحاد والنسوية، وماجدة عريقة تحلق في سماوات العزة والكرامة، وحصن الإيمان، ومبادئ الإسلام، وروح القِيَم وضمير الإنسان، والذوق العام والشعور الحسن، لتقف في شموخ وطن فوق كل الشكليات والشعارات المزيفة والأفكار السلبية والنظرات الضيقة، أو الدعوات التحريضية التي باتت تتجه بالمرأة إلى الانزلاق القِيَمي، والنفوق الخُلقي، والتفسخ والعري، وإشباع الذات، ومصادرة القِيَم، وإرضاء الذات وإشباع الغرور، والانجراف خلف الدعوات المشينة والأفكار المبتذلة، والحريات المزيفة، أو حالة الاندفاع وحب الشهرة والاستقلالية المفرطة، والخروج من جلباب الأبوة أو عصمة الزواجية، وما تبطنه هذه الدعوات من زيف فكري، وطيش لا أخلاقي، ونزوع إلى الفردانية والشهوانية والسلطوية والسادية، وخروج عن كل معايير القِيَم والعفة والشرف، وسقوط في مستنقع الفوضى اللاأخلاقية التي تترتب على هذا المسار، ونقل المرأة من إنسانية الشعور إلى سطحية الجسد، معلبات فارغة، وتنمّر على قِيَم المجتمع وأخلاقه، وهروب من المسؤولية، وتسكع في الشوارع والملاهي، ودعوة للمرأة إلى مجاهرة الملأ بقبح السلوك عبر المنصات المفتوحة والسناب شات، مما يستقبحه الذوق الرفيع ويعافه الضمير الحي ويستقبحه الفكر الأصيل، لتثبت المرأة العمانية لكل أصحاب هذه المهاترات، والمروجين لهذه الغوغائيات، أنها بخلاف ذلك، في فكرها المتجدد، وحضورها المؤثر، وعقليتها الناضجة، وقيادتها الكفؤة، وعطاؤها المستمر لعُمان وشعبها، لتمنح هذه المفردات قيمتها في سلوك الأجيال وموقعها في قاموس البناء، وميادين التضحية والفداء، ومواقع العمل والإنجاز، ومواقف الشرف والبطولة، وتحية إجلال وإكبار لكل عمانية، أُم وبنت وأخت وزوجة، وعاملة وموظفة، حفظت وطنا، وصنعت مجدا، ورسمت نهجا، وحققت نهضة، وللسيدة الجليلة أُم الوطن كل التقدير والتحيات، وكل عام والجميع بخير.