د. وليد أحمد السيد:
يستحق الدكتور عبد الحليم إبراهيم، الذي رحل عن عالمنا يوم السبت الماضي 16 اكتوبر بعد صراع طويل مع المرض لما يقارب عقدين، من المجتمع المعماري الاكاديمي والتطبيقي الحضري، ومؤسسات العمران عموما، أكثر من مجرد وقفة احترام وتأمل للإرث التجديدي الذي خلفه منذ مطلع الثمانينيات. وربما كانت المرحلة التي شهدت نشأة فكره في مجال التصميم للمجتمعات الحضرية، قصيرة نسبيا ولا تكاد تزيد عن عقد ونيف، الا انها رافقت ظهور العديد من الطفرات الفكرية التي عنيت بما شكل في فترة الثمانينيات “بإشكالية الاصالة والمعاصرة” والتي غرق فيها العالم العربي في “متاهة” تجديد الفكر والثقافة والتطبيقات العمرانية، مضافا اليها “متاهة ثانوية” تم بموجبها محاولة لي اعناق النصوص الدينية والشريعة الاسلامية لاقحامها في مسائل التصميم والتخطيط العمراني وضمن ما دار في فلك ما عرف “بالعمارة الاسلامية”، والتي كانت احدى تمظهرات “شركة الاستشراق المتحدة” التي اسس لها الاستعمار العسكري المباشر في القرن الماضي والعقود التي سبقت فترة السبعينيات. في تلك الفترة، والتي يمكن ان نؤرخ لها ببساطة اليوم على انها بداية “فترة التيه المعماري” والتي امتدت لاربعين عاما لاحقة، ظهر الدكتور عبد الحليم ابراهيم بعد تخرجه من جامعة بيركلي اواخر السبعينيات، وعاد للقاهرة كاستاذ اكاديمي في جامعتها.
تلك الفترة الحالكة، كظلمات بعضها فوق بعض، والتي للاسف اثرت سلبا في جيل من المثقفين والمعماريين، اتسمت بسجالات فكرية، وثقافية، امتدت للمجال العمراني، لتأسيس معالم الارضية التي يقف عليها العالمان العربي، والاسلامي، بعد فترة طويلة من الركود والخمول الفكري والثقافي والعمراني، مع تداخلات “استشراقية”، اسست للكثير من المفاهيم والمصطلحات المغلوطة، والتي ليس مقامها هنا، انقسم بموجبها المفكرون الى ثلاث فرق معلومة. الفريق الثراثي اغرق في الماضوية واتباعها بمفاهيمها الاستشراقية، فيما حاز فريق “التوفيقيين” بين التراث والحداثة على ثناء اكثر مما يستحق آنئذ، اذ هم في حقيقة الامر “تلقيطيون” بين الماضي والحاضر، مع لمسة من “تأثيرات” استشراقية عكسها فهم غير دقيق لحضور التراث في الحاضر على شكل نمطي قدمته الدراسات الاستشراقية لمفاهيم العمارة والمدينة الاسلامية. عبد الحليم ابراهيم، لم ينتم يوما لاي من هذه الفرق الثلاثة، ومرجع ذلك قوة فهمه العميق للاسس التي تقوم عليها “عمارة المجتمعات” كآلية، لا كناتج او محتوى. وهذه البصيرة العميقة، التي امتدت جذورها من الستينيات في رفضه لمنتجات الحداثة الصارمة والبحث عن “الحرية العفوية” التي انتجتها المجتمعات “الانسانية” في تمظهراتها الحضرية، كان يسهل تبينها في قدرته على التعبير عن افكاره النظرية في البيان الفصيح ومن خلال مداخلاته العفوية، بحضور ومع كاتب هذه السطور.
تقاطعت طريق كاتب السطور، ولأول مرة عام 1988، في مكتبه بحي المهندسين بالقاهرة. ومن اللافت ان طرق السعي نحو هدف “مغاير للمألوف” قد كان بين الساعي والمسعي اليه. فكما طالت رحلة عبد الحليم ابراهيم في امريكا وعلى امتداد عقد خلال الستينيات والسبعينيات لاثبات فكره في رفض المخرجات الصارمة التي فرضتها حداثة لوكوربوزييه على العالم، كانت رحلة الساعي آنذاك للبحث عن معرفة خارج نطاق العرف والمألوف في السنة النهائية لطالب في السنة الخامسة عمارة. تكللت الرحلة آنئذ بلقاء عبد الحليم ابراهيم اولا، ثم تلا ذلك اللقاء في اليوم التالي وبترتيب منفصل زيارة شيخ المعماريين حسن فتحي في بيته، في اطار بحث معرفي خارج الصندوق وخارج محددات الجغرافيا لتمتد للكنوز التي تقدمها قاهرة المعز لدين الله الفاطمي لطلبة على اعتاب اكمال الدراسة.
عبد الحليم ابراهيم رحمه الله، امتاز بالوضوح، والصراحة، والعلم كأستاذ جامعي وباحث مثابر، وفي نفس الوقت البساطة، فلم تغير معدنه رحلة العلم الطويلة لاميركا. تكررت اللقاءات قبل وبعد زيارة شيخ المعماريين حسن فتحي بالقاهرة في رحلة عام 1988، ولم تكن خاتمة اللقاءات، فبعد رحلة العمل مع المعماري راسم بدران منذ عام 1989 سنحت الفرص لتبادل فرق عمل بين القاهرة اولا ثم عمّان والرياض على اثر فرص عمل مشتركة بين المعماريين.
عبد الحليم ابراهيم وظّف منهجيته الاكاديمية البحثية في مشاريعه التي تلت عودته للقاهرة، وكان ابرزها مشروع الحديقة الثقافية للاطفال. منهجيته تقوم على فكرة الاحتفالات المجتمعية كاحداث تصنع البيئة المبنية ومتعلقات العمران فيها، كمنهجية تعلي من شأن المجتمع مقابل الرأسمالية الغربية القائمة على التسليع وعلى التنميط المتكرر المقولب والمحدد للمنتج مسبقا كنهاية وليس كعملية وآلية.
رحلة عبد الحليم ابراهيم الاكاديمية والعملية امتدت لما يزيد على عقدين فقط، قضى شطرها الاول، وبحق، كباحث جاد في جامعة بيركلي، وقد حدّث عبد الحليم ابراهيم كاتب هذه السطور شخصيا عن رحلة كفاح عصامية يسلكها كل من ابتغى طريقا صعبا لتحقيق الذات وتحقيق هدف وفكرة مع استاذ له نظرية هو كريستوفر الكساندر. راودت هذه الافكار كاتب هذه السطور حين سلك ذات الطريق بعد حوالي عقد اثناء البحث عن الفجوة الهائلة وغير المعلنة بين النظرية والتطبيق، مع استاذ هو بيل هيلير، والذي وللمفارقة، بنى جزءا من نظريته على مراجعات لمزالق تنميطية وقع فيها كريستوفر الكساندر في نظريته. هذه الرحلات الاكاديمية الصعبة التي يشقها باحثون في مغترب، لا يدركها الا من سلك ذلك الدرب، وتتطلب صلابة وقوة ارادة لاتمام بحث غير مسبوق في حياة الباحث من حيث القدرة على جمع المعلومات والافكار واختبار منهجية وتقديم افكار خارج الصندوق في بناء اكاديمي محكم وعلى فترة طويلة لا يجالدها الا صبر صبور وفي ظروف محيطة تكتنفها ارهاصات الغربة، وبخاصة ان كان الباحث والاستاذ يجتهدان وراء معرفة غير مسبوقة. ومن هنا كان الدكتور عبد الحليم ابراهيم وبحق رائدا ومنظرا واستاذا اكاديميا يستحق ان يشار له بالبنان في مسعاه لدحض مسلمات عالمية في العمران وفي فترة قاحلة امتدت منذ الستينيات والسبعينيات. واليوم باتت الشهادة الاكاديمية العليا في مراحل الدكتوراة يسهل الحصول عليها بالمراسلة وغيرها سعيا وراء لقب، او من قبل اكاديميين بينهم وبين الممارسة بون شاسع من جهة وبين البحث العلمي الاكاديمي بون اكثر اتساعا. ومن هنا يعتبر عبد الحليم ابراهيم وبحق مجددا وجامعا بين الاستاذ الاكاديمي الرصين والمعماري المصمم الذي وظف نظريته في مشاريع لاقت نجاحا وحازت على تقدير اقليمي وعالمي. ولعله ايضا كان ملهما لغيره في محاولة الجمع بين النظرية الاكاديمية، والشهادة الاكاديمية، والممارسة العملية. كان عبد الحليم ابراهيم يؤمن بأن الجيل الجديد من المعماريين “متعجل” لقطف الثمار، وهو محق الى حد ما، لكن هذه النظرة قد تكون حرمت بعض المبدعين من فرص نادرة للظهور وشق طرقهم بعيدا عن تأثيرات الاستاذ. وربما كانت على كل حال هي النظرة السائدة في فترة الثمانينيات بضرورة ملازمة جيل من المعماريين لاستاذهم على حساب طموحاتهم. ولو سادت هذه النظرة العالم الاسلامي قديما لما خرج فقيه او محدث عن شيخه قط.
امتاز عبد الحليم ابراهيم رحمه الله، بشخصية محبوبة كاريزماتية، وبفصاحة الاستاذ الرصين، وصراحته، وبساطته في التعامل مع من حوله دون تكلف. كان يجالس البسطاء في مكتبه ويعطف عليهم، يشاركهم مطعمهم ومشربهم مما يشتري لهم في وقت الغداء، يرسل عم عبده لشراء البطيح والجبن والعيش اثناء استراحة العمل في يوم صيفي قائظ ويحدث مجالسيه عن نظرياته في العمران او تجاربه في الحياة. واحيانا كان يرسل عم عبده لشراء فول وطعمية من “فول الجحش” بالقرب من مكتبه الملاصق لحديقة الاطفال الثقافية بحي السيدة زينب. رحم الله الدكتور عبد الحليم ابراهيم رحمة واسعة، وبفقده يفقد العالم العربي رمزا مهما من رموز الفكر الرصين حيث اختط لنفسه طريقا يعتمد على المجتمع كمحور لآلية الابداع الجمعي التشاركي، بعيدا عن تفرعات التراث والحداثة وما بينهما من منهج تلقيطي لا يخلو من شوائب الاستشراق والفكر الذي دار في فلكه وادخل العالم العربي منذ الثمانينيات في رحلة “التيه الاربعيني”الى يومنا هذا.