يأتي الاحتفال بذكرى مَولد خير البرِيَّة سيدِّنا ونَبيِّنا محمد، صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو يوم يظلُّ شاهدًا على أعظم ذكرى في تاريخ الأُمَّة الإسلاميَّة، لنستزيد فيه من السُّنة النبويَّة التي تمنحُنا العِبَر والدُّروس، وتُحيي فينا الشَّوق لنَبيِّنا وحبيبنا محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ الذي أدَّبه ربُّه فأحسنَ تأديبَه، فحمل رسالة سمحة للإنسانيَّة جمعاء، وجاءت بعثته لِتُتمِّم مكارم الأخلاق، وتُعلي من القِيَم الإنسانيَّة النَّبيلة. فاحتفال أُمَّة الإسلام هذه الأيَّام بذكرى النَّبي الهادي الذي جاء برسالة الإسلام السَّمحة ليَمْحُوَ التخلُّف والجهْل ومظاهر الجاهليَّة، وينبذ الكُفر والشِّرك؛ ليكون استذكار سِيرته فرصةً لنا لِنُحيي مبادئه ونغرسها من جديد في نُفوس الأجيال النَّاشئة، ونستظلُّ بسُنَّته في أيَّام المِحن والوباء، لتكون أخلاقه ورسالته عونًا لنا في تخطِّي هذه الأيَّام العصِيبة.
إنَّه يومُ سعْدٍ للبشريَّة جمعاء، له قُدسيَّة كبيرة لا مثيل لها في نُفوس الأُمَّة الإسلاميَّة في مشارق الأرض ومغاربها، يومٌ يُؤجِّج القوَّة الإيمانية في النُّفوس، ويحفِّز على العِبادة والصَّلاة والذِّكر والصَّلاة على صاحب الذِّكرى، يومٌ نستعيد فيه القِيَم الإسلاميَّة التي غرسها النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ولنسعى مجددًا جاهدين في إحياء سُنَّته الشَّريفة، فَسِيرتُه هي القُدوة والمَثَل الأعلى لِمَنْ سعَى لذلك، فنَبيُّنا الهادي هو الدَّاعي دائمًا لغَرْس القِيَم النَّبيلة في النُّفوس، وهو القائل ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ في حديثه الشَّريف (مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ)، لذا وجَبَ ونحن نستذكر يوم مَولده أنْ نسعى للتحلِّي بأخلاقه، فهي المُنْجيَة من كُلِّ شرٍّ، فالرَّسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كان كثير الحياء، وكثير العمل، يبتعد عن زلَّات اللِّسان، كثير الإحسان، يحبُّ العفو إذا قدر، يترفَّع عن الصَّغائر، جسَّد أخلاق الإنسان في شخْصه الكريم، وعلينا اليوم ونحن نُحيي الذِّكرى الاقتداء بتلك الأخلاق، والعمل على إزكاء نفوسنا بها.
إنَّ الرَّسول الكريم ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ كان يُعلِّمنا بأخلاقه العمليَّة، ولم يكن يحمل من الشِّعارات ما يناقض عمله، فقد كان نقيَّ السِّر والعَلن، طهور الظَّاهر والباطن، لا يوجد بَيْنَ حيَاتِه الخاصَّة وحيَاتِه العامَّة حجاب؛ فسِيرته في نفْسه وفي بَيْتِه كَسِيرتِه بَيْنَ النَّاس، ودعوته التي يعرض على النَّاس أُصولها، كان أوَّل النَّاس احتكامًا إليها وأخذًا بها، وقد ظلَّ بارزًا للأصدقاء والخُصوم سنين طويلة، فما عُرفت عنه ريبة، ولا وقَع تناقُض بَيْنَ سُلوكه الخاصِّ وسُلوكه العمَلي، فقد اختار نَبيُّنا الهادي أنْ يروي جدب النُّفوس كقدوة وازنَتْ بَيْنَ القَوْل والعمَل، وأنْ يكون ينبوعًا دافقًا بالرَّحمة والإحسان للإنسانيَّة جمعاء، وعلى هذا النَّهج يَجِب أنْ يسير المقتدون به، الآخذون برسالته، حتى نلقاه عند الحوض، فهو الهادي في الدُّنيا والشَّفيع عند الحوض ويوم العَرض.
فيومُ مولد رسول الرَّحمة ـ عليه أفضل الصَّلاة وأزكى السَّلام ـ هو اليوم الذي تفخر به الإنسانيَّة على الزَّمان، وهو اليوم الذي مهَّد لأنْ تطهر الأرض من الشِّرك وعبادة الأوثان، ونحن نحتاج اليوم لاستعادة ربط المسلمين بسِيرة النَّبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ليأخذوا منه الأسوة والقدوة، واليوم نُحيي ـ بل يَجِب أنْ نُحيي ـ المعاني التي ماتت والتَّذكير بهذه المآثر التي نُسِيَت، نحتفل بأنْ نذكِّر النَّاس بحقائق السِّيرة النَّبويَّة وحقائق الرسالة المحمديَّة، وهو يوم نشكر فيه الله حقَّ شُكره على ما أنعم علينا بمَولد خير البرِيّة، فاللهم صلِّ وسلِّم على خير الأنام، اللهم اجعلنا من أحبابه المقرَّبين، ومن العاملين بأحاديثه الشَّريفة والمُطبِّقين لسُنَّته، والمُلتزمين برسالته، والسَّاعين باستمرار للنَّهل من نبْعه الصَّافي وسِيرته العَطِرة ما ينفعنا في الدُّنيا والآخرة، ولنداوم على الصَّلاة عليه، صلَّى الله عليه وسلَّم، في كُلِّ حينٍ وآنٍ .