د. جمال عبد العزيز أحمد:
وُلِدَ الرسولُ، فتآخى الأغنياء والفقراء، بل تسابق الأغنياءُ، فأعطوا فوق زكاتهم لإخوانهم، وشاطروهم أموالهم، فانتصف أهلُ الفقر من أهل الغنى، وعاش الناس إخوة متحابين، يخاف الفقيرُ على مال أخيه الغنيِّ، ويحرص على حراسته، فقد نال من خيره، فراح يسهر عليه، ويحفظه، وجاد الناس على بعضهم وسخوا فيما بينهم، وتباذلوا في الله، وراح بعضهم يسدُّ دينَ أخيه من غير علم أخيه، فإذا جاء المدين إلى صاحب الدين ليدفعه قال الدائن:دُفِعَ عنك من زمن، فيقول: من دفعه، فيقول واحد من الناس لا أعلمه، وهذا ما حدث، وروي في السيرة حيث جاء فيها أن مسروقًا ـ رحمه الله ـ ادَّانَ دينًا ثقيلًا، وكان على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق، فقضى دين أخيه خيثمة، وهو لا يعلم، وذهب خيثمة، فقضى دَيْنَ مسروق، وهو لا يعلم، فكلُّ واحد قام بقضاء ما على أخيه من الدين من غير ان يُعلِمَه حرصًا على ماء وجهه أن يندى رغم أن كلًّا منهما صاحبُ حاجة، فعلمهم الرسول معنى الإيثار، فانتهت بينهم الأثرة، وشاع الإيثار، والحب الصادق، فخاف كلٌّ منهما على وجه أخيه أن يحمرَّ خجلًا، أو يدمع عينًا، أو يحزن قلبًا إذا لقي أخاه، أو رسول أخيه؛ لأنه يفعله ابتغاء مرضاة الله، وأكثر من ذلك علمهم الرسول بسيرته العملية أن يدخروا النفيس لإخوانهم، وكان الصحابي يشتري ما يطلبه منه جاره حتى إذا طلبه وجده، فتحقق فيهم قول الله تعالى:(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)، بل كان عبد الله بن المبارك يخرج من عند سفيان بن عيينة مسرورًا طيبَ النفسِ، فسئل عن ذلك، فقال:(وما يمنعني من ذلك، حدثني ابن عيينة أربعين حديثًا، وأطعمني خبيصًا)، والخبيصُ هو: التمر والسمن يعجن، ويصنع، ماذا يريد المرء أكثر من ذلك؟!، طعام العقل، وزاد البدن، وهكذا كان العلماء الكرام، علَّمهم الرسولُ معنى الكرم، وبصرهم بحبائل الوصال.
قال أحمد شوقي مبيِّنًا لكمال ما جاء به الرسول الكريم الذي وَلَدَتْ معه أمة ميلادًا جديدًا، فصارت قادةُ الأمم أخوة، وإيثارًا، وتضحية، ومحبة، وبطولة:
والبِرُّ عندك ذمةٌ وفريضةٌ
لا مِنَّةٌ ممنــــوحةٌ وجبــــــاءُ
جاءتْ فوحدتِ الزكاةُ سبيلَه
حتى التقَى الكرماءُ والبخلاءُ
أنصفتَ أهلَ الفقرِ من أهلِ الغِنَى
فالكلُّ في حقِّ الحياةِ سَـــوَاءُ
ويتحدث عن كرمه، وجوده، وعطائه الذي لا يوصف، ورأته الدنيا بعين وجهها، وتذوقته بلسان حالها، وتعجبتْ من أخلاقه، وصفاته التي جاء بها، فغير وجه الدنيا كلها، وأعان أبناءها على بلوغ إنسانيتهم، وكمال أخلاقهم:
يا مَنْ له الأخلاقُ ما تهوى العُلا
وما يتعشـــَّـقُ الكبـــــــــراءُ
زانتكَ في الخلقِ العظيمِ شمائلٌ
يُغْرَى بهنَّ ويُولَعُ الكــــرمـاءُ
وإذا عفوتَ فقادرًا ومقدِّرًا
لا يستهينُ بعفوكَ الجُهـَــــلَاءُ
فإذا سخوتَ بلغتَ بالجُودِ المدى
وفعلتَ ما لا تفعلُ الأنــــــواءُ
وإذا رَحِمْتَ فأنتَ أمٌّ أو أبٌ
هذان في الدنيا هما الرحمــاءُ
إن الناظر في سيرته من مولده إلى وفاته يجد أنها كلها، وفي كل أوضاعها: حربًا وسلمًا، سفرًا وإقامة، ضحكًا وحزنًا، صمتًا وكلامًا، أخذًا وعطاء، بيعًا وشراء، صلاة وزكاة، ودعاء، زواجًا، وصلة رحم، وزيارة، وعيادة مريض، ونحو ذلك كلها موضع أسوة، ومناط قدوة، ومن يتبع السيرة اتباعًا دقيقًا، ويتتبع هذا الهدى: فهمًا، وتعلمًّا، وتعليمًا، وتطبيقًا يرفعه الله في العالمين، ويكتب له المحبة، والقبول في الأرض، ويصير محبوبًا بين الناس لحبه للسنة المطهرة، وحب صاحبها (عليه الصلاة، والسلام)، وعمله بسيرته المباركة، وتلك هي المحبة الحقيقية لرسول الله، وهذا هو الاتباع الصحيح، والاحتفاء بيوم الميلاد، والاحتفال بكل تلك السيرة الكبيرة التي نَضَّرَتْ وجه التاريخ، ووسَّدَتِ الإنسانيةَ مكانَها، ومكانتَها، وأعادت لها قيمتها، وعزتها، وشموخها، صلى الله وسلم، وبارك على صاحب الذكرى الكريمة وعلى آله وصحبه أجمعين، وكلَّ عام، وأنتم بخير، رزقكم الله جواره، وشفاعته، والسقيا من يده، ورؤيته في أعالي جنان الخلد، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وتستنزلُ البركات، وتحلُّ الخيرات.

- كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.