محمود عدلي الشريف:
إخوة التوحيد والهدى.. كنا في الحلقة الماضية مع الدلالات الكونية الظاهرة الباهرةالدالة على اختيار آباء الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وأمهاته، وأكبر دليل على ذلك قصة ذبح عبدالله بن عبد المطلبكما في (البداية والنهاية 2/248):(قالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِيمَا يَزْعُمُونَ نَذَرَ حِينَ لَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ مَا لَقِيَ عِنْدَ حَفْرِ زَمْزَمَ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ نَفَرٍ ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحن أَحَدَهُمْ للَّه عِنْدِ الْكَعْبَةِ. فَلَمَّا تَكَامَلَ بَنُوهُ عَشَرَةً وَعَرَفَ أَنَّهُمْ سَيَمْنَعُونَهُ وَهُمُ. الْحَارِثُ. وَالزُّبَيْرُ. وَحَجْلٌ. وَضِرَارٌ. وَالْمُقَوَّمُ. وَأَبُو لَهَبٍ. وَالْعَبَّاسُ.وَحَمْزَةُ. وَأَبُو طَالِبٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ. جَمَعَهُمْ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِنَذْرِهِ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْوَفَاءِ للَّه عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ فَأَطَاعُوهُ وَقَالُوا كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ قِدْحًا ثُمَّ يَكْتُبُ فِيهِ اسْمَهُ ثُمَّ ائْتُونِي فَفَعَلُوا ثُمَّ أَتَوْهُ، فَدَخَلَ بهم على هبل فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَكَانَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ هِيَ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ، وَكَانَ عِنْدَ هُبَلَ قِدَاحٌ سَبْعَةٌ وَهِيَ الْأَزْلَامُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا إِذَا أَعْضَلَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ مِنْ عقل أو نسب أوامر مِنَ الْأُمُورِ جَاءُوهُ فَاسْتَقْسَمُوا بِهَا فَمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ أَوْ نَهَتْهُمْ عَنْهُ امْتَثَلُوهُ).
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا جَاءَ يَسْتَقْسِمُ بِالْقِدَاحِ عِنْدَ هُبَلَ خَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِيَدِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَخَذَ الشَّفْرَةَ ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ إِلَى إِسَافٍ وَنَائِلَةَ لِيَذْبَحَهُ فَقَامَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ أَنْدِيَتِهَا فَقَالُوا: مَا تُرِيدُ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ أَذْبَحُهُ فَقَالَتْ له قريش وبنوه إخوة عبد الله وَاللَّهِ لَا تَذْبَحُهُ أَبَدًا حَتَّى تُعْذِرَ فِيهِ لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يجيء بِابْنِهِ حَتَّى يَذْبَحَهُ فَمَا بَقَاءُ النَّاسِ عَلَى هَذَا.
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ:(أَنَّ الْعَبَّاسَ هُوَ الَّذِي اجْتَذَبَ عَبْدَ اللَّهِ مِنْ تَحْتِ رِجْلِ أَبِيهِ حِينَ وَضَعَهَا عَلَيْهِ لِيَذْبَحَهُ فَيُقَالَ إِنَّهُ شَجَّ وَجْهَهُ شَجَّا لَمْ يَزَلْ فِي وَجْهِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ ثُمَّ أَشَارَتْ قُرَيْشٌ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْحِجَازِ فَإِنَّ بِهَا عَرَّافَةً لَهَا تَابِعٌ فَيَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَنْتَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكَ إِنْ أَمَرَتْكَ بِذَبْحِهِ فَاذْبَحْهُ وَإِنْ أَمَرَتْكَ بِأَمْرٍ لَكَ وَلَهُ فِيهِ مَخْرَجٌ قَبِلْتَهُ فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوُا الْمَدِينَةَ فَوَجَدُوا الْعَرَّافَةَ وَهِيَ سَجَاحُ فِيمَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِخَيْبَرَ فَرَكِبُوا حَتَّى جَاءُوهَا فَسَأَلُوهَا وَقَصَّ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَبَرَهُ وَخَبَرَ ابْنِهِ فَقَالَتْ لَهُمُ ارْجِعُوا عَنِّي الْيَوْمَ حَتَّى يَأْتِيَنِي تَابِعِي فَأَسْأَلُهُ فَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهَا فَلَمَّا خَرَجُوا قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُمْ قَدْ جَاءَنِي الْخَبَرُ، كَمِ الدِّيَةُ فِيكُمْ؟ قَالُوا عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ وَكَانَتْ كَذَلِكَ قَالَتْ فَارْجِعُوا إِلَى بِلَادِكُمْ ثُمَّ قَرِّبُوا صَاحِبَكُمْ وَقَرِّبُوا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ اضْرِبُوا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى صَاحِبِكُمْ فَزِيدُوا مِنَ الْإِبِلِ حَتَّى يَرْضَى رَبُّكُمْ وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الْإِبِلِ فَانْحَرُوهَا عَنْهُ فَقَدْ رَضِيَ رَبُّكُمْ وَنَجَا صَاحِبُكُمْ فَخَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ ثُمَّ قَرَّبُوا عَبْدَ اللَّهِ وَعَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَزَادُوا عَشْرًا ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَزَادُوا عَشْرًا فلم زَالُوا يَزِيدُونَ عَشْرًا عَشْرًا وَيَخْرُجُ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى بَلَغَتِ الْإِبِلُ مِائَةً. ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ فَقَالَتْ عِنْدَ ذَلِكَ قُرَيْشٌ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَ هُبَلَ يَدْعُو اللَّهَ قَدِ انْتَهَى رِضَى رَبِّكَ يا عبد المطلب. فعندها زعموا أَنَّهُ قَالَ لَا حَتَّى أَضْرِبَ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَضَرَبُوا ثَلَاثًا وَيَقَعُ الْقِدْحُ فِيهَا عَلَى الْإِبِلِ فَنُحِرَتْ ثُمَّ تُرِكَتْ لَا يُصَدُّ عَنْهَا إِنْسَانٌ وَلَا يُمْنَعُ).
أليس هذا كافيًا كبيرًا ودليلًا قويًا على اختيارعبد الله فقد فدي بمائة ناقة بدلًا عنه، وذلك لأن عبد الله كان لا يصلح أن يذبح لأن مهمته لم تنتهي، ولهذا جاء الدليل الثاني موت عبد الله فور أداءه مهمته، بمجرد أن حملت آمنة بمحمد (صلى الله عليه وسلم) مات عبدالله بسبب بسيط لأن مهمته قد أداها، بل إن هناك أدلة ودلائل كثيرة جدًّا تدل على اختيار أمه (صلى الله عليه وسلم) آمنة بنت وهب، ففي (البداية والنهاية، ط: الفكر 2/ 249): (قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ آخِذًا بِيَدِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فَمَرَّ بِهِ ـ فِيمَا يَزْعُمُونَ ـ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وهي أم قتال أُخْتُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ وَهِيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَنَظَرَتْ إِلَى وَجْهِهِ فَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَعَ أَبِي، قَالَتْ: لَكَ مِثْلُ الْإِبِلِ الَّتِي نُحِرَتْ عَنْكَ وَقَعْ عَلَيَّ الْآنَ. قَالَ: أَنَا مَعَ أَبِي وَلَا أَسْتَطِيعُ خِلَافَهُ وَلَا فِرَاقَهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:
أَمَّا الْحَرَامُ فَالْمَمَاتُ دُونَهْ
وَالْحِلُّ لا حل فأستبينه
فكيف بالأسر الَّذِي تَبْغِينَهْ
يَحْمِي الْكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَهْ
فَخَرَجَ بِهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أَتَى وَهْبَ بْنَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي زُهْرَةَ سِنًّا وَشَرَفًا فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدَةُ نِسَاءِ قَوْمِهَا فَزَعَمُوا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا حِينَ أُمْلِكَهَا مَكَانَهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَأَتَى الْمَرْأَةَ الَّتِي عَرَضَتْ عَلَيْهِ ما عرضت فقال لها مالك لَا تَعْرِضِينَ عَلَيَّ الْيَوْمَ مَا كُنْتِ عَرَضْتِ بِالْأَمْسِ؟ قَالَتْ لَهُ فَارَقَكَ النُّورُ الَّذِي كَانَ معك بالأمس فليس لي بك حاجة. وكانت تَسْمَعُ مِنْ أَخِيهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ـ وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ وَاتَّبَعَ الْكُتُبَ ـ أَنَّهُ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ نَبِيٌّ فَطَمِعَتْ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَشْرَفِ عُنْصُرٍ وَأَكْرَمِ مَحْتَدٍ وَأَطْيَبِ أَصْلٍ).
وأكمل ما ذكره في هذا ما ذكره صاحب(البداية والنهاية، ط: الفكر 2/ 255)قَالَ:(وَخَطَبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غالب ابن فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مضر بن نزار وَمَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِرْقَتَيْنِ إِلَّا جَعَلَنِي اللَّهُ فِي خَيْرِهَا فَأُخْرِجْتُ مِنْ بَيْنِ أَبَوِيَّ فَلَمْ يُصِبْنِي شَيْءٌ مِنْ عُهْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَخَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي وَأُمِّي، فَأَنَا خَيْرُكُمْ نَفْسًا، وَخَيْرَكُم أَبًا).
ومع دلالة أخرى تتجلى لنا بعد حمل أمه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ به ألا وهي حادثة الفيل المشهور التي سجلها القرآن الكريم في سورة الفيل، جاء في (فتح البيان في مقاصد القرآن 15/ 393):(عن ابن عباس قال: ولد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عام الفيل، قال القرطبي: أي قبل مولده لخمسين يومًا، قال الخازن وهذا هو القول الأصح فإنهم يقولون ولد عام الفيل، ويجعلونه تاريخًا لمولده ـ صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن أجمل ما ذكره صاحب (السيرة النبوية لابن كثير 1/ 39):(ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا قَالَتْهُ الْعَرَبُ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ، الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُشَرِّفَهُ وَيُعَظِّمَهُ، وَيُطَهِّرَهُ وَيُوَقِّرَهُ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَا يُشْرَعُ لَهُ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، الَّذِي أَحَدُ أَرْكَانِهِ الصَّلَاةُ بَلْ عِمَادُ دِينِهِ، وَسَيَجْعَلُ قِبْلَتَهُ إِلَى هَذِهِ الْكَعْبَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ نُصْرَةً لِقُرَيْشٍ إِذْ ذَاكَ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ هُمُ الْحَبَشَةُ، فَإِنَّ الْحَبَشَةَ إِذْ ذَاكَ كَانُوا أَقْرَبَ لَهَا مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّصْرُ لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِرْهَاصًا وَتَوْطِئَةً لِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـوكَانَتْ قِصَّةُ الْفِيلِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ مِنْ تَارِيخِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ الثَّانِي إِسْكَنْدَرُ ابْن فِلِبْسَ الْمَقْدُونِيُّ الَّذِي يُؤَرِّخُ لَهُ الرُّومُ) .. وللحديث بقية.

[email protected]