عادل سعد:
لا يفتقد الاختصاص قيمته إلا ركونه بعيدًا عن مجال حيويته وتجدده، فحينها يصاب بالضمور والتلاشي، بينما يكون في صميم تجدده عندما يتمحور ضمن متنفسات وازنة لما هو عليه.
لقد لفت نظري حقًّا إطلالة فلسطينية ذكية رغم كل ضغوط الاحتلال والانشغالات بالمصير الوطني العام.
في مدينة رام الله هنالك الآن مؤسسة تعرف بمنتدى الخبرات يلجأ إليها متقاعدون أحيلوا على المعاش بعد سنوات طويلة من العمل في مختلف الاختصاصات، وكأنهم بهذا التوجُّه يستجيبون إلى التحذير الميثولوجي الإفريقي المعروف (إذا تقاعست عجائز الطيور فسد البيض).
الحال أن المنتدى يمثِّل قوة عمل بأهداف مركَّبة ومتكاملة، فهو من جانب يسحب المتقاعدين من احتمال الوقوع في الكوما (الفقدان العميق للوعي) وانتظار (الرحيل)، وكذلك يعطي دفعًا واضحًا يمنع تبدد الخبرات، ولكن هناك شأنًا وازنًا أن يكون بهُوية فلسطينية يغذيه زخم يتبارى مع المِحن التي يتعرض لها الفلسطينيون عمومًا جرَّاء ضغوط الاحتلال الإسرائيلي.
لا شك ليس هناك جديد في المبادرة لو أن الشعب الفلسطيني يتعاطى حياتيًّا أسوةً بما تتعاطى به شعوب أخرى سبقت إلى هذا النوع من التواصل لحماية الخبرات من الضياع، بينما هو بنسخة تصطدم على مدار الساعة بالتهديدات وفرض واقعٍ مريرٍ.
إن تقرير المصير الفلسطيني لا يعني فقط التحرر من الاحتلال، وإنما أيضا تجديد الاستدامة التنموية الفلسطينية.
لقد أتيح لي أن أكون على بيِّنة من هذا الحرص الفلسطيني في أكثر من حوار واحد مع القائد ياسر عرفات ونشرته في مجلة (ألف باء) التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة والإعلام العراقية إبان عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وكنت على صلة إعلامية مع القيادي عزام الأحمد عندما كان مقيمًا في بغداد ويتولى مسؤولية اتحاد الطلبة العرب، بل وكانت لي صداقات وثيقة مع أدباء وكتاب فلسطينيين أذكر منهم أديب ناصر ومؤيد البحش ومنسي سلامة وحسن الكاشف ونواف أبو الهيجاء الذي كان يكتب في هذه الصفحة، وكذلك مع إبراهيم خريشي الذي كان أحد القيادات الطلابية ويتردد كثيرًا على بغداد قبل أن يكون دبلوماسيًّا للقضية الفلسطينية في سويسرا.
الحال أن هذه الشخصيات الفلسطينية التي التقيتها قد وفرت لدي يقينًا قاطعًا أن الإنسان الفلسطيني يتعامل مع الحياة بضمير التحدي وليس بالاستكانة، أو الخشية من الإصابة بالإعياء، وهذا سر ديمومة المقاومة الفلسطينية؛ إذ لم يرضخ في يوم من الأيام للقبول بالحلول الجزئية.
الحال أن الإسرائيليين لم يستوعبوا حتى الآن عنوان الصمود الفلسطيني، وإذا كان فلسطينيو الداخل بهذا المستوى من الاتقاد الذهني المتميز والمبدع فإن فلسطينيي الشتات ليسوا أقل من ذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الراحلان المؤرخ هشام شرابي والمفكر إدوارد سعيد.
بخلاصةٍ، تفيد التأشيرة الفلسطينية أن (اللي يزرع زرعين ما يخيب)، ويذهب الشاعر الفلسطيني معين بسيسو إلى التأكيد أن (الأشجار تموت واقفةً).
في المشهد الفلسطيني العام لا تكتفي الإرادة بحضورها فحسب، وإنما تضيف إليه فرصًا داعمةً في مجالات أخرى، وتلك من محركات الردف النوعي للتنمية البشرية المستدامة حتى وإن كانت الأرض تمور بالأحداث الصعبة.