إبراهيم بدوي:
برغم الجهود العلمية التي يبذلها العلماء في كافة بقاع المعمورة للتصدي لفيروس كورونا، سواء باكتشاف لقاحات تمتلك قدرة فعالة في القضاء على الوباء عالميا، أو إيجاد دواء يسهم على الأقل في وقف حصاد الأرواح، إلا أن التصدي الحقيقي للوباء له أبعاد اقتصادية واجتماعية وفكرية وحتى فلسفية تتساوى في الأهمية مع الجانب البحثي والعلمي. فتجربة كورونا أظهرت عوارا كبيرا في طريقة الحياة بكافة أبعادها، سواء على المستوى الفردي أو الوطني أو حتى العالمي. فالإنسانية وجدت نفسها أمام اختبار هو الأصعب، خصوصا مع ما تلحفت به أو ظنت أنها تتلحف به من تطور تقني وعلمي رأينا أنه يكفي لحمايتنا من أعتى الأخطار، لكنه وقف عاجزا أما فيروس بسيط، ورأينا أكبر الأنظمة العلمية والطبية حول العالم تعلن سقوطها المدوي، حيث أجبرها الفيروس للعودة للانغلاق الشبيه ببداية الإنسانية.
إن استدلال البعض بأحاديث بيل جيتس أو فيلم ما للتأكيد على نظرية المؤامرة بشأن انتشار كورونا، قراءة سطحية غير متعمقة لتلك التوقعات التي كانت تحذيرية من أشخاص أدركوا أن ما ننفقه على السلاح كان كفيلا لو أحسن توجيهه نحو البحث العلمي المعني بصحة الإنسان وبيئته، بأن ينقذنا من هذا الفيروس الذي أثر علينا أفرادا ودولا، وسنظل نعاني من آثاره فترة ليست بالقصيرة، وأن أي حديث عن تعافٍ لا يزال مرتبطا بما استخلصناه من دروس، فالإنسانية أمام خياران لا ثالث لهما، إما أن نكون أدركنا أن أسلوب الحياة كأفراد وحكومات ودول قبل كورونا، كان له أثر سلبي ساهم في انتصار الفيروس علينا، أو دفن الرؤوس في الرمال والحديث عن نجاعة هذا اللقاح أو ذاك، فحتى لو استطعنا القضاء على كورونا، فسنجد ألف فيروس آخر يستطيع النفاذ ليضرب الإنسانية مجددا، ونفقد نتيجته الأهل والأصدقاء قبل الخسارة الاقتصادية والاجتماعية.
فالعالم الآن أضحى بحاجة للتسلح بأشياء كانت مجرد شعارات نرفعها، لكننا نهملها في حياتنا اليومية، فالحفاظ على البيئة والتنمية المستدامة وتوفير ميزانيات كبيرة للبحث العلمي المعني بصحة الإنسان، والعمل على إيجاد تطور علمي متصالح في المقام الأول مع بيئته، لم تعد مجرد كلمات وأحلام أفلاطونية نسعى من ورائها إلى مداراة ما فعله الإنسان من تدمير لبيئته، لكنها أضحت من ضرورات فرضها واقعا ما بعد الجائحة، وقبل أن تسخر من هذا الطرح عليك أن تتذكر وأنت لا تزال في خضم الأحداث، أن مناعة الإنسان التي تأثرت بشدة من تطوره العلمي ضد بيئته، كانت هي حصان طروادة الذي نفذ منه الفيروس، فكم الأموال التي صرفت على مكملات غذائية وفيتامينات بهدف تقوية جهاز المناعة، كانت كفيلة أن تحافظ على مناعة الإنسان لو حافظنا على بيئتنا وأعدنا للغذاء دوره في توفير الاحتياجات الجسدية للبشر.
إن البشرية تحتاج لقراءة متأنية عن أسباب الفيروس وسرعة انتشاره، ووضع تصورات تحميها مما هو أخطر وأشرس، بدلا من الأحاديث المقعرة عن التعافي الاقتصادي وعودة الوظائف. صحيح أن التداعيات الاقتصادية للفيروس كبيرة، لكن إصلاحها لا يحتاج للعودة لما كنا عليه قبل الاجتياح، لكن يحتاج إلى وضع أطر اقتصادية جديدة، لتنمية الاقتصادات وفق تصور جديد مستدام، يراعي الجوانب البيئية ويعمل على الحفاظ عليها، ويحدد أولويات جديدة لنفقاته، مما سينعكس إيجابا على استحداث فرص جديدة للعمل ستحدث نقلة كبرى على المستويات الفردية قبل الوطنية، أولويات تعلي من صحة الإنسان كهدف أساسي، وتبتعد عن الصراعات وما يعقبها من سياسات تسليحية تضر الجميع.
ولعل النموذج الأميركي الذي انسحب في عهدته الترامبية من اتفاقية باريس للمناخ، والذي انهارت منظومته الصحية أمام شراسة كورونا، أكبر دليل على خطأ النهج الاقتصادي والاجتماعي العالمي، وما أصاب الولايات المتحدة خلال الفترة الماضية يدفعنا جميعا أفرادا وحكومات للتوجه نحو ما ينفعنا ويصنع مستقبلا أفضل للإنسانية جمعاء، وبدون ذلك سيكون الانتصار على كورونا وقتيا وستعود من جديد الأخطار لتحيق بشعوب العالم، نحن نحتاج لتطور يعي احتياجاتنا من كافة الجوانب ويتواكب معها، لا إلى تطور يقودنا نحو كوارث جديدة ويعاند بيئته.