د. رجب بن علي العويسي:
تمارس منصَّات التواصل الاجتماعي اليوم دورا استثنائيا في توجيه بوصلة الشباب وإعادة رسم ملامح المرحلة التي يعيشها، وتعزيز البناء الفكري لديه، واحتواء توجهاته، وتنشيط حركة تفاعله مع الواقع الاجتماعي الذي يعيشه، لتتجه إلى الثقة بقدراته، ونقل صورة مكبرة عن واقعه وطموحاته ومشكلاته، وتوظيف المكونات المجتمعية الأخرى الفاعلة في عالمه، وتوفير مفاهيم تواصلية متنوعة تقدم خيارات أكثر تجريبا وواقعية يتفاعل معها الشباب في ظل نقاشات مستمرة، وطرح نوعي متكامل لقضاياه، واستشعار لموقعه في منظومة العمل الوطني، الأمر الذي يؤدي إلى إعادة إنتاج دوره الجديد في التسويق لوطنه وذاته، وتجحيم أثر التباينات والاختلافات في الرأي، وتنشيط مسار التعددية في وجهات النظر التي تجد في هذه المنصَّات مساحة أمان لها لانطلاقة أفضل، تتقاسم خلالها مشترك البحث عن حلول واقعية لمشكلات الشباب.
ولعل ما يدفعنا إلى القناعة بامتداد هذا التأثير وموقعه في ثقافة الشباب، هو الرقم الصعب الذي يشكله الشباب في منظومة العمل الوطني، وبرامج التنمية الوطنية والبيئة الديمغرافية والإسكانية والسكانية التي تحتوي الشباب، والثقة التي تضعها الحكومة على الشباب في استنهاض الفرص واستنطاق البدائل وإنجاح استراتيجيات العمل الداعمة للإنجاز والمحققة للطموحات، فهو مجتمع فتي يشكل الشباب في مجمله العام أكثر من 33%، وتشير بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام 2020، إلى أن نسبة الشباب (18- 29) سنة من إجمالي العمانيين بلغت (20.1%)، وأن ما نسبته (24%) من إجمالي العاملين العمانيين في السلطنة هم شباب، كما بلغت نسبة أصحاب الأعمال الشباب (18- 29( سنة من إجمالي أصحاب الأعمال العمانيين في السلطنة (17.7%)، هذا الأمر يأتي في ظل ارتفاع عدد الباحثين عن عمل من الشباب، حيث إن ما نسبته (72%) من إجمالي الباحثين عن عمل في السلطنة هم شباب، حيث بلغ عدد الشباب في السن العمرية (18-29) الباحثين عن عمل أكثر من 47 ألف باحث عن عمل.
وبالتالي ما يعنيه ذلك من أن استيعاب العلاقة بين الشباب والمنصَّات التواصلية يجب أن يأخذ في الاعتبار كل المتغيرات والفرص والمؤثرات المجتمعية، ودراسة أبعادها وتأثيرها على منتج الشباب الفكري في هذه المنصَّات، وباتت مسألة الحضور الشبابي في المنصَّات التواصلية فرصة لفهم أعمق لما يجري في العالم من تحولات، وكيف يمكن أن يستفيد الشباب مما تطرحه هذه المنصَّات، بالإضافة إلى إثبات بصمة حضور فعلية له فيما يطرحه من مبادرات وتجارب ومقترحات وبدائل، وينتجه من رصيد فكري متجدد يعبِّر عن مستوى الوعي والذوق، والتي يمكن في ظل تعزيزها بنماذج التقييم والرصد والتحليل لها والمتابعة لنتائجها، أن تؤصل لثقافة مهنية قادرة على تحقيق التحول في سلوك الشباب، وتمكينه من استثمار الفرص المتاحة له في ظل قناعته ومشاركته في رصد المنجز التنموي المقدم له، وعليه تصبح هذه المنصَّات مساحة للحوار وتبادل الأفكار تنتهجها الحكومات في منح مواطنيها فرصا أكبر ومساحات أوسع لإبداء الرأي وتلمس أفكارهم وطرق تجاربهم والتعرف على ابتكاراتهم ومبادراتهم ورصد جوانب القوة في أدائهم، وتبيان الجوانب الابتكارية الخلاقة لديهم.
من هنا لم تعد العلاقة بين الشباب والمنصَّات التواصلية حالة وقتية، بقدر ما هي خيار أصيل للشباب يجب أن يستخدمه الشباب بأفضل الأساليب والطرق، ولم تعد مسألة إتقانها وفهم معانيها، والتزام مبادئها سلوكا مزاجيا بل ممارسة أصيلة ومنهج سليم يصنع القوة وينتج الحلول، ويبني العروة الوثقى، ويضمن احتواء متحققا للشباب، وامتلاكه مهارة التعامل مع هذه المنصَّات والاستفادة منها بالشكل الذي يضمن تحقيق فرص أكبر لإنجاز نوعي مستدام. فإن كثافة حضور الشباب في المنصَّات الاجتماعية يؤسس لتحولات قادمة يجب أن تصنعها قطاعات المجتمع الموجهة نحو الشباب في سبيل رفع مستوى توقعاته، ورصد أولوياته بما يلقي على المؤسسات مسؤولية البحث عنها واستدراكها، وإنتاج التشريعات والقوانين وأنظمة العمل التي تحفظ دور هذه المنصَّات كداعم لاستراتيجيات العمل الوطني وتحقيق التنافسية، فقد أظهرت نتائج استطلاع رأي العمانيين حول استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الذي نفذه المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في عام 2019، إلى أن نسبة 94% من العمانيين يمتلكون أو يستخدمون حسابات نشطة في منصَّات التواصل الاجتماعي، وأن المتوسط اليومي لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بلغ 6 ساعات في اليوم، وأن أكثر الأوقات استخداما لوسائل التواصل الاجتماعي هي الفترة مـن الساعة الثامنة مساء إلى الثانية عشرة صباحا، هذا التحول الحاصل في استخدام هذه المنصَّات من الجنسين عزَّز من الثقة في هذه المنصَّات، وأصبحت الحاضن الرئيسي للشباب للبحث عن المعلومة والمعرفة، أو كذلك لطرح أفكاره والحديث عن واقعه وسلوكه، حيث أظهرت نتائج الاستطلاع أن 36% من العمانيين يثقون بدرجة أو بأخرى في وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار والمعلومات عن الأحداث المهمة مقابل 35 بالمائة لا يثقون بها، كما تزيد نسبة الثقة في المنصَّات التواصلية بين الإناث عن الذكور (38 بالمئة مقابل 32 بالمئة) وأن استخدام الإناث أعلى من الذكور لأغلب وسائل التواصل الاجتماعي، في ظل الفرص التعليمية والتدريبية والتأهيلية التي عزَّزت من الوعي بالمخاطر الناتجة عن هذه المنصَّات، خصوصا في التعاملات الإلكترونية أو الهكر أو الابتزاز الإلكتروني والحسابات الوهمية وغيرها.
وأيّا كان الأمر فإن اتجاه الشباب اليوم لهذه المنصَّات يطرح الكثير من الموجهات التي ينبغي أن تضعها قطاعات الدولة المعنية برعاية الشباب وتعليمه وتدريبه وصقل مواهبة وقدراته في كيفية توجيه هذا الرصيد الثري الذي تمنحه هذه المنصَّات من أجل ترقية الممارسات الشبابية وتأصيل قِيَمها مبادئها، وتوجيهها لصالح تعزيز الوعي المجتمعي والتوعية في كل الجوانب الحياتية التي باتت بحاجة اليوم إلى دور أصيل للشباب، وأثبتت الحالة المدارية "شاهين" الموقع الاستراتيجي للشباب في منظومة العمل الوطني، والدور البطولي له في أداء الواجب الوطني والقيام بمسؤولياته الاجتماعية والإنسانية، ودور المؤثرين في منصَّات التواصل الاجتماعي التي يديرها الشباب لضمان التوجيه الأمثل لهذه المنصَّات لصناعة مجتمع الأمن والسلام والتنمية والاستقرار، بما يؤكد الحاجة إلى توفير الممكنات النفسية والفكرية والاجتماعية والتعليمية والمهنية، وبناء المناخات التنافسية الداعمة لهم، وترقية أساليب التوعية والتثقيف، وإيجاد حاضنات للشباب ومراكز لاحتواء المواهب الشبابية وتجريب الابتكارات، والتوسع في المنصَّات الإعلامية التواصلية بما يعزز من كفاءة الشباب في إعادة إنتاج هذه المنصَّات وتوجيه فلسفة عملها كشريك فاعل في الإنجاز ومورد حافظ لطاقات المجتمع ولحمته الاجتماعية وتعزيز تماسكه وقوته وصلابة عوده ونقاء سريرته في مواجهة كل الدعوات التحريضية التي تحاول أن تصنع من هذه المنصَّات مساحة للفرقة وتشويه صورة العمل الوطني الأصيل.
على أن تصحيح الصورة السلبية التي باتت ترسخها هذه المنصَّات وعبر الهاشتاقات وردود الأفعال وبعض الطروحات وطريقة التفاعل معها، وحالة الفردانية والسلطوية، أو الذاتية والأنا، والإحباط والتشاؤم التي يعيشها الشباب في ظل فقدان الأمل بقدرة المؤسسات والمجتمع على احتوائه أو الصدق معه والتقدير لرغباته ومراعاة احتياجاته، والتي عبَّر عنها في المحتوى الرقمي الذي يغرد به، وطريقة حواراته، وردود أفعاله نحو العديد من القضايا المجتمعية التي تتناول تداعيات الإجراءات الاقتصادية والرسوم والضرائب، وارتفاع الأسعار ورفع الدعم عن الكهرباء والماء والوقود، أو قضايا التشغيل، والتوظيف، والتسريح وغيرها من القضايا، التي باتت تمسُّ الحقوق والواجبات والمسؤوليات، وحالة الاختزال التي يعيشها الشباب في واقعه الاجتماعي وأولوياته واهتماماته، ومستوى الاستماع إليه والإنصات له والأخذ بيده، وفتح آفاق رحبة له لقراءة الحياة في صورتها الإيجابية والتفاؤلية، يستدعي اليوم تكاتف الجهود في البحث عن ممكنات أكثر نضجا وتفاعلا مع واقع الشباب وأولوياته ويوفر مساحة متجددة لإعادة إنتاج هذه الفضاءات، بإزالة كل الشوائب العالقة، والمفاهيم المغلوطة، والمنطلقات التي تؤسس لنرجسية التعامل مع هذه المنصَّات، واختزال الموجهات والأطر الأخلاقية الداعمة لنمو مسار القوة في منتجها، فالمحتوى المبتذل، والأفكار الأحادية، والطرح العقيم، والسؤال الاستفزازي، والردود السطحي، والأسلوب الرديء الذي يمتهن الكرامة ويقتل المروءة ويمجد سرقة التاريخ والفكر والهُوية والخصوصية والمبادئ، منغِّصات باتت تشوِّه الصورة الإيجابية التي يفترض أن تقوم عليها منظومة الوعي الرقمي التواصلي للشباب.
أخيرا، يبقى الاحتفال بيوم الشباب العماني، السادس والعشرين من أكتوبر وعُمان تتجه بخطى واثقة لتنفيذ رؤيتها الطموحة "عُمان 2040" محطة تأمل للمزيد من العمل الوطني نحو الشباب كونه رهان الأمة العمانية في خريطة التقدم والتطور، الأمر الذي يضع قيادات الدولة ومؤسساتها أمام مسؤولية وضع الأوامر السامية لجلالة السلطان "وسوف نحرص على الاستماع لهم وتلمُّس احتياجاتهم واهتماماتهم وتطلعاتهم، ولا شك أنها ستجد العناية التي تستحقها" محور الاهتمام وأولوية العمل، إنها دعوة كريمة سامية في المبادرة بتعزيز السياسات الناضحة، والتشريعات الحاكمة في التعامل الواعي المقنن مع المنتج الفكري للشباب في المنصَّات التواصلية بما يحفظ حقوقه فيها، ويعكس الشخصية العمانية في سلامها وحوارها وأخلاقها وترفعها فوق دركات الخلاف وشطحات الاختلاف، ومائدة تستفيد منها قطاعات الدولة المختلفة في رصد أولويات الشباب واهتماماته وسقف التوقعات لديه، فيستشعر فيها مسؤوليته الأخلاقية والاجتماعية والوطنية، ويصبغها بمبادئه وأخلاقه وإنسانيته وحسه الوطني، ويجسد في مصداقية محتواه الرقمي أخلاق الإنسان وهُوية الأوطان.