د. جمال عبد العزيز أحمد:

معلوم أن وجوه إعجاز القرآن الكريم متعددة، وأن مواضع بلاغته أكثر من أن تُحصَى، فتشمل الحركة والحرف والبنية، والتركيب والأسلوب، كما تشمل السكت عليه، والوصل، والإيجاز والإطناب، والمساواة، وكُتِبَتْ في ذلك كتبٌ كثيرةٌ، وأقيمتْ ندواتٌ تترى، وشُغِلتْ محاضرات كبرى، وقدِّمَتْ أعمال علمية أكاديمية جُلَّى، نالتِ القِدْحَ المعلَّى، والتقدير الأسمى، والشرف الأَسْنَى: قديمًا، وحديثًا، وستظل تمضي في طريقها إلى يوم الدين، وذلك في شكل رسائل ماجستير، ودكتوراه تناولتْ موضوعَ تعددِ التوجيه النحوي، وارتباط ذلك بالدلالات المرتبطة، والمتداخلة بين كل توجيه، وتوجيه، وبين كل تخريج وأخيه.

وهنا نتناول آية واحدة لها عشرة أوجه نحوية، وكلُّ وجه منها مرتبط ـ بلا شك ـ بدلالات عميقة، ومعانٍ جديدة، مما يدل على أن هذا الكتاب الكريم ليس من عند البشر، وأنه لا حَدَّ لإعجازه في جميع المجالات، والتخصصات، والفنون: اللغوية، وغير اللغوية، والإعرابية، وغير الإعرابية، هذه الآية هي قوله تعالى:(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)، وهي الآية الثانية من سورة البقرة، وهي، وإن كانت مرتبطة بالآية الأولى: (ألـم) إلا أننا سنلمسُ الأولى في مقال آخر نخصصه لها، لأنها تتعلق بموضوع آخر، وهو كيفية إعراب الحروف المقطعة في كلِّ القرآن الكريم، وأوجه إعرابها، وارتباطها بمعانيها في كل إعراب، لكننا سنتناول هنا إعراب الآية الثانية فقط، ونرصد تلك الوجوه الإعرابية التي نقتصر فيها على عشرة أوجه فقط ، نبينها، ونقف على معانيها، وجمال مراميها. التوجيه الأول: إن اسم الإشارة: (ذلك) مبتدأ، وخبره (الكتاب)، والمعنى هنا أن هذا المشار إليه القريب من القلوب، والعقول المؤمنة، النازل من عند الله ـ هو الذي ينبغي أن يسمَّى الكتابَ، و(أل) فيه كمالية، أي هو الكتاب الكامل كمالا ربانيا في كتابته، وفي كل شيء ورد فيه، أو (أل) عهدية ذهنية، أي الكتاب الكريم الذي هو مركوز في كل عقل، وذهن كل مسل مؤمن به، أو عهدية حضورية، إن كنتَ تشير إليه، وأنت تقرأ، أو تتكلم بهذه الآية، فالعهد فيها إما حضوريًا وإما ذهنيًا، فأول إعراب أن اسم الإشارة:(ذلك) مبتدأ، وخبره:(الكتاب)، وعرفنا نوع (أل) هنا التي ترسي المعنى، وتضع له مقامه، وتوسِّده دلالته، أي: هذا هو الكتاب الحقيقي الذي ينبغي أن نلتفَّ حوله، ونعمل بما فيه، ونؤمن بكل ما أتى بين دفتيه، ليقيننا بمنزلته، وجلال وكمال صاحبه، وهو الله ـ جلَّ جلاله وعز شأنه وكمُلتْ صفاته ـ وأنزل فيه كلَّ ما يُصلِحنا، وينفعنا، ويرفعنا في الدنيا والآخرة، وهو القمين بأن يسمى كتابًا لكماله وجلاله ومهابته. وهنا نرى الشيخ محيي الدين الدرويش في كتابه القيّم:(إعراب القرآن وبيانه) يرجِّح كون:(الكتاب) خبرًا لاسم الإشارة:(ذلك)، لا بدلًا بقوله:(والكتاب): خبر (ذلك)، وهو أولى مِنْ جعله بدلًا من اسم الإشارة، لأنه قصد الإخبار بأنه الكتابُ المقدسُ المستحقُّ لهذا الاسم، تدعيمًا للتحدي. والتوجيه الثاني: إنّ (ذلك) اسم إشارة للبعيد، مبني على السكون، في محل رفع مبتدأ، و(اللام) للبُعد، حرف لا محل له من الإعراب، و(الكاف) للخطاب، حرف مبني على الفتح، لا محل له من الإعراب، و(الكتاب) بدلًا من اسم الإشارة، مرفوع، وجملة:(لاريب) هي الخبر، والمعنى:(ذلك الكتاب حقيقة، لا شك فيها، ولا ريب حولها، وهي حقيقة نؤمن بها، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نشكَّ فيها، لأن الشك فيها لا يليق بمؤمن، وتُنزَع عنه قضيةُ الإيمان أصلا، فهو الكتابُ المتأكَّدُ من نزوله من ربِّ العالمين، ولا يجرؤ أحدٌ أن يدعيَ أنه كتابُه، وأنه الذي أنزله، فهو الكتاب الذي لا شك فيه، ولا تردُّدَ في الإيمان به).

وهنا قاعدة نحوية إعرابية مهمة، خلاصتها:(أن أيَّ اسم معرَّفٍ بـ(أل) يقع بعد اسم من أسماء الإشارة فإنه يُعرَب بدلًا منه، أو عطف بيان)، أما إذا وقع بعد اسم الإشارة كلمة (منكَّرة) فتُعرَب حسب موقعها في الجملة، فمثلًا:(هذا رجُلٌ) فـ(رجُل) خبر اسم الإشارة، ونحو:(إن هذا رجُلٌ موقَّر) فـ(رجُل) خبر (إنَّ)، ونحو:(ظننت هذا رجلًا حافظًا للعهد)، فـ(رجُلًا) مفعول به ثانٍ للفعل (ظنَّ)، ونحو:(كان هذا رجلًا بمعنى الكلمة في الحج معنا حيث تحمل ما لا تتحمله الجبال)، فـ(رجلًا) خبر كان منصوب، وهكذا، فيجب أن نتنبه لتلك القاعدة أنه: (إذا أتى اسم معرَّف بعد اسم الإشارة أعرب بدلًا منه أو عطف بيان، أما إذا ورد منكرًا أعرب حسب موقعه في الجملة لا بدلًا منه).

وهنا يقول الإمام العكبري في كتابه:(التبيان في إعراب القرآن)، أو (إملاء ما من به الرحمن في إعراب كلمات القرآن):(وموضعه ـ أي: اسم الإشارة (ذلك) ـ رفع، إما على أنه خبر (ألم)، و(الكتاب) عطف بيان، و(لا ريب) في موضع نصب على الحال، أيْ: هذا الكتاب حقًّا، أو غير ذي شك، وإما أن يكون:(ذلك) مبتدأ، والكتاب خبره، و(لا ريب) حال، ويجوز أن يكون (الكتاب) عطف بيان و(لا ريب) هو الخبر. (أ. ه)ـ. والتوجيه الثالث:(ذلك) اسم إشارة مبتدأ، و(الكتاب) خبر أول، وجملة:(لا ريب فيه) خبر ثانٍ، ويكون المعنى: هذا هو الكتاب الجدير بوصف الكمال، وهو كتاب متيقَنٌ منه، لا شك فيه، ولا تردد، ولا ريب يحوطه، ولا اضطراب فيه، وعندئذ نكون قد أخبرنا عن اسم الإشارة المبتدأ بخبرين، كل واحد يؤكد على قضية محددة، الأولى: أنه الكتاب الكامل في كل شيء، والثانية: أنه الكتاب الذي لا يجوز الشك فيه، بل يجب التيقنُ بكل ما جاء فيه: أنه من عند الله العزيز الحكيم، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يَشُكَّ مؤمنٌ، أو مؤمنة فيه، ولا في أيِّ حرف، ولا حركة فيه، ولا في أي آية.

والتوجيه الرابع: أن (ذلك) مبتدأ، و(الكتاب) بدل، أو عطف بيان، أو خبر، وجملة (لاريب) التي هي عبارة عن (لا) النافية للجنس، و(ريب) اسمها، مبني على الفتح، في محل نصب، لكونه مفردًا، والمفرد في باب لا النافية للجنس ـ كما هو معلوم ـ مبنيٌّ، والخبر محذوف، تقديره فيه، وجملة:(لا ريب) في محل نصب حالًا، والمعنى: أن هذا هو الكتاب الحقيقي، غيرَ مشكوك في ذلك، ولا متردَّدٍ فيه، ولا اضطراب هناك، ولا يمكن أن يشمله، أو يحوط به همسٌ من الشك، أو ظنٌّ من الريب، فهو دستور المسلمين، الموثَّق سماويًّا، والذي لا يجوز إنكاره، ولا الشك فيه.

والتوجيه الخامس: أن اسم الإشارة:(ذلك) مبتدأ، و(الكتاب) بدل، وجملة (لا ريب) حال في محل نصب، و(فيه) شبه جملة خبر مقدم، و(هدى) مبتدأ مؤخر، وجملة:(فيه هدى) في محل رفع خبر اسم الإشارة (ذلك)، أيْ: هذا الكتاب الكامل، المتأكِّد منه، الذي لا شك فيه ـ هو الذي فيه كلُّ هدًى، وكلُّ صلاح، وكلُّ نفع، وكلُّ هداية، وكلُّ توفيق، وتنكير (هدى) لتشمل جميع ألوان، وأصناف، وأطياف، وأنواع الهدى، فكل هُدًى متصوَّر ومتخيَّل هو موجود في هذا الكتاب الكريم، ووارد بين دفَّتَيْه، وما عليك إلا أن تلتزمَ بما فيه، وسترى كيف كان هاديًا لك إلى كلِّ هُدًى، وخير، وصلاح ونفع، وتوفيق، وهداية، وأن ألوان الهدى والأخلاق التي يريدها الخلق واردة فيه، وواضحة تمامَ الوضوح، وكلُّ حدودِه وضوابطِه هُدًى ونُورٌ.


جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.
[email protected]