محمود عدلي الشريف:
أيها المؤمنون أحباب رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. نلتقي اليوم ونحن نكمل مسيرتنا بصحبة الدلائل الظاهر الباهرة للمولد الشريف مولد أشرف وأكمل وأجمل وأنبل خلق الله أجمعين، مولد الحامد المحمود أصل الكرم والجود سيد الوجود وصاحب المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود والموقف المشهود (صلى الله عليه وسلم).
وقد توقف بنا ركب الحديث عند مورد حادثة الفيل والتي كانت قبيل مولده (صلوات ربي وسلامه عليه)، وحاصلها: أن أبرهة أمير اليمن من قبل النجاشي بنى كنيسة بصنعاء رفيعة البناء مزخرفة الأرجاء ليحج إليها العرب دون الكعبة، فسمع بذلك مالك بن كنانة فخرج ليلًا ودخلها فقعد فيها ولطخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة، فحلف أبرهة ليسيرن إلى الكعبة وليهدمنها حجرًا حجرًا، وسار في جيش عرمرم، واستصحب معه فيلًا عظيمًا يقال له محمود، ومعه اثنا عشر فيلًا غيره، فلما سمعت العرب بمسيرة أعظموا ذلك ورأوا جهاده حقًّا عليهم، وقاتلوا أبرهة، فهزمهم.
ولما مرَّ بالطائف خرج إليه أهلها وصانعوه فأكرمهم وبعثوا معه أبا رغال دليلًا، فلما وصل الغمس (كمحمد ومحدث) موضع قرب مكة مات أبو رغال، وبعث أبرهة جيشه فأغار على إبل أهل مكة، وكان فيها مائتا بعير لعبد المطلب، وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة، وأمره أن يأتيه بأشرف قريش، فجاء حناطة إلى عبد المطلب بن هاشم وأخبره بما قال أبرهة، فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه ومالنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه، وإن يخل بيته وبيته فما عندنا دافع عنه، فذهب معه، فلما رآه أبرهة أجله ونزل عن سريره وجلس معه وقال لترجمانه: سله عن حاجته. فقال: حاجتي أن يرد إلى الملك إبلي.. فقال أبرهة: تكلمني في مائتي بعير لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك ـ قد جئت لهدمه ـ لا تكلمني فيه، فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًّا سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك، فردَّ أبرهة لعبد المطلب إبله، فرجع إلى قريش وأمرهم بالخروج من مكة والتحصن فوق رؤوس الجبال، ثم أخذ عبد المطلب بحلقه باب الكعبة فقال:(لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك.. وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك.. لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدًا محالك.. قصدوا حماك بكيدهم جهلوا وما رقبوا جلالك.. إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك)، ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال، وتهيأ أبرهة لدخول مكة. فلما وجهوا الفيل نحوها برك، وضربوه ليقوم فأبى، فوجهوه راجعًا إلى اليمن، فقام يهرول.. وأرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، أي: جماعات بعضها إثر بعض، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار من سجيل (أي: طين محرق) حجر في منقاره، وحجران في رجليه لا يصيب الحجر أحدًا منهم إلا هلك، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق، ونفيل على رأس الجبل مع قريش ينظرون ما أنزل الله بأصحاب الفيل، وجعل نفيل يقول:(أين المفر والإله الطالب.. والأشرم المغلوب ليس الغالب)، وأصيب أبرهة في جسده بداء تساقطت به أنامله أنملة بعد أنملة، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزير أبرهة أبو يكسوم وطائره فوق رأسه حتى وقف بين يدى النجاشي وأخبره الخر، فسقط عليه الحجر فمات بين يديه، وقد فشا في جيش أبرهة داء الجدري والحصبة، وهو أول ظهورهما فى بلاد العرب، فعل فيهم ذلك الوباء فعلًا شنيعًا، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط قطعة قطعة، قال الشيخ محمد عبده في تفسير (جزء عم): (وقد بينت لنا هذه السورة أن حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير، وهذه الطيور الضعيفة تعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه، وفى كل شيء له آية.. تدل على أنه الواحد)، فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت أرسل الله عليه طيرًا أهلكته وقومه، وهي نعمة من لله غمر بها أهل حرمه حفظًا لبيته حتى يرسل من يحميه بقوة دينه (محمد) ـ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ)(الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق 5/ 62)، قال أَبو جعفر الباقر:(كان قُدُوم الفيل للنِّصْف من المحرَّم، ومولد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعده بخمس وخمسين ليلة) ذكَره ابن كَثير (الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق 5/ 64)، وفي هذه القصَّة ما يدلُّ على تعظيم مكَّةَ، واحترامِها واحترامِ بيتِ اللَّه الذيفيها، وولادةُ النًّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) عقيبَ ذلك تدُلُّ على نبوَّته ورسالتهِ، فإنَّه (صلى الله عليه وسلم) بعثَ بتعظيمِ هذا البيتِ وحجِّه والصلاة إليهِ، وكانَ هذا البلدُ هو موطِنه ومولده (تفسير ابن رجب الحنبلي 2/ 633)،قال في البحر:(كان صرف ذلك العدو العظيم عام مولده السعيد ـ عليه السلام ـ إرهاصًا بنبوته إِذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول، من خوارق العادات والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وقد أهلكهم الله تعالى بأضعف جنوده وهي الطير التي ليست من عادتها أنها تقتل)(صفوة التفاسير 3/ 579).
وليس هذا فحسب بل إن أمه (صلىالله عليه وسلم )السيدة آمنة رأت عجبًا، فيما روي عن ابن إسحاق قال:(فكانت آمنة بنت وهب ـ أم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ـ تحدث أنها أتيت حين حملت محمدًا (صلى الله عليه وسلم) فقيل لها:إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد..من شر كل حاسد.. في كل بر عابد.. وكل عبد رائد.. نزول غير زائد.. فإنه عبد الحميد الماجد.. حتى أراه قد أتى المشاهد، فإن آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصري من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمدًا، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الفرقان محمد فسميه بذلك)(سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي، ص: 45)، ويؤيد ذلك ما رواه صاحب (دلائل النبوة، ص: 31):(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُول الله مَا كَانَ بدؤ أَمْرِكَ قَالَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى وَرَأَتْ أُمِّي خَرَجَ مِنْهَا نُورًا أَضَاءَتْ لَهَا قُصُورُ الشَّامِ)، وكما أشرت في حلقة سابقة أنزواج أبيه عبد الله من أمه آمنة بنت وهب، كان عجيبًافقد ظل أبوه مع أمه أيامًا قليلة ثم ذهب في تجارة إلى الشام ومات في طريق عودته، على الصحيح، فالله أحسن إلى نبيه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إحسانًا عظيمًا وجعله يتيمًا، والإنسان ينظر كيف كان (صلى الله عليه وسلم) في أهله، وكيف كان في عشيرته، كان يتيمًا فقيرًا، فأبوه مات قبل مولده (صلى الله عليه وسلم) وأمه ماتت وله ست سنوات ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أو نحوها، فيرعاه جده، ثم يموت جده، ويرعاه عمه، وينتقل من إنسان لإنسان، فالذي يموت عنه أبوه ثم جده ثم عمه الغالب أن يزهد في مثله، ويكون لا مال له، ولكن الله عز وجل كفله وهو ينتقل من إنسان إلى إنسان)(شرح رياض الصالحين ـ حطيبة 11/ 5).
فرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في معيه الله تعالى وكنفه في كل جنبات حياته، فقد (وُلِدَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُسْتقبل القِبْلَة وَاضِعاً يَدَه على الأَرْض، رافِعاً رأْسَهُ إِلى السَّماءِ، ليس عليه شَيء من أَقذار الولادَة. وقد تولَّتْ ولادتَهُ الشِّفا ـ وهي ـ أُمّ عبد الرحمن بن عَوْف، وقالت: لمَّا سَقَطَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ على يَدَىّ واستهل، سمعتُ قائلاً يقول: رَحِمَك الله. وأَضَاءَ لي ما بين المشْرِق والمغْرِب حتى نَظَرْتُ إِلى قُصُور الرُّوم) ذكره القاضي عِياض، كذا في (الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق 5/ 65).
فكفى بهذه الدلائل على مولده الشريف دلائلا ظاهرة وباهرة، (وَممَا ظَهَرَ مِنَ الآيَاتِ عِنْدَ مَوْلِدِهِ وَمَا حَكَتْهُ أُمُّهُ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْعَجَائِبِ وَكَوْنُهُ رَافِعًا رَأْسَهُ عِنْدَمَا وَضَعَتْهُ شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَمَا رَأَتْهُ مِنَ النُّورِ الَّذِي خَرَجَ مَعَهُ عِنْدَ وِلادَتِهِ وَمَا رَأَتْهُ إِذْ ذَاكَ أُمُّ عثمان ابن أَبِي الْعَاصِ من تَدَلّي النُّجُومِ وَظُهُورِ النُّورِ عند ولاته حتى ما تنظر إلا النور) كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى ـ وحاشية الشمني 1/ 366) .. وما سيأتي يأتي أظهر وأبهر بإذن الباري.

[email protected]