سامي الهاشلي:
يتعين علينا في البداية التمييز بين ما هو السلوك البشريالمجرّد، وما هو خُلُق، فثمت فرق بينهما قد لا يلاحظ لتعذّر العلاقة، فالسلوك ينتج من مطلب جسدي كالطعام أو نفسي كالاستجمام أو فكري كالبحث أو روحي كالذكر، وهو بذاته عار من الاتصاف بالسلب أو الإيجاب،بينما الخلق ناتج من الفطرة ومنمّى بالكسب، ولئن صاحب السلوكخلق فيمكن نعتهـ حينئذٍ ـ بالخلق، حمدًا أو ذمًّا، يوضّح التفصيل الآتي (فلسفة العلاقة بين السلوك والخلق):
أولًا ـالسلوك المجردوهو السلوك الناتج عن المكونات الأساسية المادية الملموسة في كل إنسان، يمكن تسميتها بالذوات العضوية للجسد، ولكل ذات احتياجاتها الغريزية،فالعقل وتطلعاته الفكرية، والروح ومتطلباتها التعبدية، والشخصية وذائقتها الكمالية، وهذه مؤثرات ترسم خطًّا سلوكًا،لكل ذات بحسبها، وتطرأ عليها مؤثرات سلوكية خارجية ناجمة من محيط المجتمع وما يحمله من تنوّع يساق كمسوّق مؤثر طارئ.
ـ سلوك الجسد: يستجيب السلوك لغريزة الجسد ضمن حدود طبيعته،والجسد مكون من عينين وأذنين وبطن وحواس وفرج، ولكلٍسلوك حسب طبيعته وحاجته، كالأكل عن جوع، والنوم عن تعب، وتلك الاستجابة تظل سلوكًا مجردًا فطريًا طبيعيًا ما لم تصاحب بغطاء خلقي وصفي، فأكل الطعام يأتي بتأثير دافع الجوع وهذا سلوك لا علاقة له بقالب الأخلاق سلبًا ولا إيجابًا، بينما أخذه عن قناعة بلا طمع، والتزامه بمقدار الحاجة، يتحول إلى سلوك متصف بالخلق الكريم،وكذاأكله بشرهة زائدة عن الحاجة،أو تخمة وأنانية، فهذا سلوك موصوف بأخلاق غير محمودة.
ـ سلوك العقل: هو منبع الفكر واتزان الشخصية، فالسلوك العقلي يستجيب للترجيح الفكري، ويتعرى الفكر من الخلق ما لم يصاحبه، فلا يحسن الاختيار إلا لمصلحة مقدرة بالخلق، كالبحث العلمي هو سلوك عقلي مجرد، ولا يكون ذلك السلوك خلقًا ما لم يتقيد بالأمانة العلمية، ولا تكون نتائجه مقبولة ما لم تتوافق مع الخلاق، وكان من الاعتراف أن نذكر الدول التي رفضت تطبيق الاستنساخ على البشر، مما توصلت إليه المعارف العقلية لمنافاتها للأخلاق.
سلوك الروح: بحاجة إلى ركن تأوي إليه وتشتكي له وتدعوه وتعبده، هي كالجسد بحاجة إلى غذاء وجداني، وتبقى ممارسة ذلك التعبّد سلوكًا مجردًا إذا لم يرتسم بالخلق، وللمثل لذلك إنك عند ما تحدث شخصًا وهو لا يعيرك اهتمامًا وينصرف عن إنصاته إلى السهو المتعمد لغيرك، تشعر بعدم التوقير والاحترام، فكذلك تظل العبادة عارية من خلق التوقير ما لم تؤتَ بالخشوع واستحضار عظمة الذات العلية، ومن لم يعظم شعائر الله توقيرًا فلا يرجى منه تقوى، ومن عظم الخلق في العبادة أنها تكون خالصة لله، فإن شابها رياء فذلك سوء خلق مشين في حق تفرد وحدانية الله عز وجل.
سلوك الذوق: يمكن تسميته بـ(الشخصيّة)، والسلوك التي تتبعه يسمى الأدب، أو الذوق الشخصيأو (فن الإتيكيت) يدخل في طريقة تناول الطعام والشراب، واللبس والنظافة والنظام الاجتماعي المتبع، ويدخل فيه آداب الأناقة وإصلاح مظهر الجسد، كتهذيب شعر الرأس والوجه، وتقليم الأظافر، وإزالة شعر الإبطين..وغيرها.
الفهرس الاجتماعي: أقصد به العرف الذي تواطأ عليه ناس في بلدهم وظل سلوكًا متبعا في تعاملاتهم، معروفا عندهم، مدّا من الزمن يصل إلى الشرطية،وهو سلوك خارجي طارئ على الإنسان، له تأثيره بعامل التقليد المحض، أو بقوة التأثير الاجتماعي، قد تحمل تلك التقاليد الحسن أو القبح، وتلك القوة الاجتماعية تشكل نوعا من الطاعة، في تكاليف غير منصوص عليها، وليست بالضرورة من قبيل خلق النفس الفطري، لذلك وجب الحذر في نسبة السلوك الإنساني إلى الأخلاق دون تقصٍ، وبيّن الميداني أنّ الأصل للسلوك الإنساني يهدف إلى مطالب جسدية أو نفسية أو فكرية أو روحية، سواء كان ذلك الهدف لصالح الفرد أو الجماعة، وأي سلوك يحقق ذلك المطلب إما أن يكون سلوكًا خلقيًا أو مجردًا منه.
ثانيًا ـالخلق: هو الشيء المعجن مع مادة النفس عند تكونها، وهو مكون غيبي معنوي حمدًا أو ذمًّا، كالعطاء عن جود، والإمساك عن شحّ، قال الخالق تبارك وتعالى:(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس 7 ـ 8)، وتسوية النفس (حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإِلهام.. ومن آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية والإِدراك الضروري المدرَّج ابتداء من الانسياق الجِبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يُكره، إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي، وكل ذلك إلهام)، (التحرير والتنوير ـ محمد الطاهر بن عاشور).
ـ النفس: هي الوعاء الذي امتزج فيه التقوى والفجور، حسن الخلق ودمامته، هي تلك المادة الخام التي أطلقنا عليها في الحلقة الماضية بـ(الفطرة)، يظل ماء الخير فيها ينضح ظاهرًا عن نتاج إرادة خَلْقية خالصة، كابتًا على الشر، منميًا للخير ما عاش في بيئة تقوم على تقويمها وتقييمها وتقويتها بشكل دائم حتى تطغى على فجور النفس، وهنا يأتي الدور التربوي المناط على المسؤولية الأسرية، ومسؤولية العقل، والدين والمجتمع والمربين والمرشدين، ومن حيث الجانب الشعوري للنفس يدخل الاستجمام والاستمتاع المباح بالجمال والترويح باللعب واللهو المباح.. وغيرها، وتظل هذه الممارسات مجرد سلوكيات جافة أو عرفية ما لم تريش بالذائقة الخلقية.
وللتمثيل على الفطرة النفسية يجدربالذكر أنّ النفس مجبولة على الميل لمن خلقت منها، أعني الزوجة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم ـ 21)،فالسكنى الفطرية في العشرة الزوجية تكون مجرد سلوكيلبي الحاجة النفسية أو الدعوى الاجتماعية، أو الحاجة الجسدية، وإن ترفعت عن الحيوانية، وكان التلاحم فيها بالمودة والرحمة والإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وبالاحترام والاهتمام والتقدير والدفاع عن العشّة الزوجة وستر الأسرارالخاصة والوفاء بها، يكون السلوك النفسي خلقًا محمودًا مثاليًا.
القلب أو العقل الباطن:ويسمى كذلك بالذكاء الوجداني في عصرنا، تنبثق منه كل عافية للقلب أو سقمه، كالإقدام عن شجاعة، والفرار عن جبن، والإقبال عن طمع، والكف عن عفة، والاعتراف عن حب للحق، والإنكار عن كبر وإفراط في أنانية، والإغضاء عن حلم، والتحمّل عن صبر، هو سلوك باطني خلقي محض، وسلوكه المتصف بالخلق السيء معروف بأمراض القلوب كالتكبر والغرور وسوء الظن والحسد.
الفهرس الديني: يأتي مع التربية المهارية (التطبيقية) والفهرس الديني هو المؤثر الخارجي، يوضح التعاليم الدينية الخلقية، ويعزز الفطرة الخلقية السليمة ويحذر من نقيضها، وهو الآتي من النقل القرآني والسني، ومعه البرامج المهارية المتأسي بها من تطبيقات سيرة رسول الله(صلى الله عليه وسلم).
السلوك والخلق والنيّة: يجدر أن تذكر بعض الوقائع الملاحظة، ففي بعض الأحيان تصدر أخلاقا مستقيمة في غير المسلمين، ليست من رياء أو تكلّف أو مصلحة، لكنها أخلاق صادقة، هي من أصل تلك الخلقة النفسية وما نضح منها من بقايا الفطرة السليمة، تفتقر إلى النية الخالصة، وكذلك تخرج تصرفات من بعض المسلمين لم يكن مصدرها الفطرة، كانت نتاج رياء أو مصلحة مثلًا، فيمكن وصف تلك التصرفات بالأخلاقلكنها تفتقر إلى الصدق، ومن المهم معرفة مصير السلوك من العمل، والعمل ميزانه دقيق جدًّا على مثقال ذرة، فيحسب معه السلوك والخلق الصادق والنية معًا، فإن اتفق السلوك مع خلاصة النية وحسن الخلق كان سلوكًا مقبولًا، وإن لم يتوافق مع إحداهما أو كليهما ظلَّ سلوكًا مقبولًا ظاهرًا، مرفوضًا باطنًا.
* كاتب عماني