د. أحمد مصطفى أحمد
رغم كل التقدم العلمي الذي شهدته البشرية حتى الآن، إلا أن "لله في خلقه" شؤونا تستعصي على المعرفة إلى أن تأتي أزمة فاصلة فتكشف عن بعضها. من أهم تلك الخفايا ما يتعلق بالجسم البشري، الذي كلما ظن العلماء والباحثون أنهم سبروا غوره يكتشفون أن هناك ما يجهلونه. حتى في الأساسيات لعمل أجسادنا، لا تبدو في كثير من الأحيان أنها تسير "كما الكتاب". ومسألة نسبية القواعد والنظريات شائعة أكثر في العلوم الاجتماعية وتلك التي تتعلق بالسلوك البشري، أما العلوم الطبيعية والفيزيائية فربما تكون قواعدها العلمية أكثر دقة. لكن في النهاية، يبدو أيضا أن حقائق الحياة حتى بالنسبة لتك العلوم تكشف دوما أن الأمور ليست دائما كما الكتاب.
منذ اكتشاف فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19) في الأيام الأخيرة من عام 2019 والعلماء والباحثون يجتهدون لمعرفة تركيبة الفيروس وطريقة انتشاره وإصابته البشر بالعدوى والعمل داخل الجسم البشري مسببا المرض الذي قد يصل أحيانا إلى حد الفتك بالإنسان. وتركز البحث في البداية على تفكيك التركيبة الوراثية لشريط الحامض النووي الأحادي للفيروس وطريقة انتشاره والعدوى به بين البشر. ثم استخدمت تلك المعلومات بسرعة غير مسبوقة في تطوير لقاحات للفيروس كان لها الأثر الأكبر في قدرة البشرية على التعامل مع الوباء والتوقف عن الإغلاق الكامل للبلدان والمناطق ومحاولة استعادة حياة أقرب للطبيعية. وفي الأثناء، كانت هناك أبحاث ودراسات تعمل على تطوير نماذج للفيروس والوباء وطريقة عمله داخل الجسم والأمراض التي يتسبب بها.
من بين تلك الأبحاث ما نشره علماء يونانيون الأسبوع الماضي، ويمثل نقطة ضوء مهمة في الغمامة الكثيفة من الكآبة التي فرضها وباء كورونا على العالم. ففي ورقة عملية خلص باحثون من الأكاديمية اليونانية للعلوم في أثينا إلى أن بعض البشر قد يكون لديهم مناعة طبيعية من الإصابة بفيروس كورونا من الأساس. صحيح أن البحث ما زال في بداياته، لكن العمل على اكتشاف أي تميز دقيق في التركيب الوراثي لخلايا بعض الأجسام البشرية، أو لأنواع البروتينات على جدار الخلايا البشرية في تلك الأجسام والتي يستغلها الفيروس لدخول الخلية البشرية والتكاثر داخلها وبالتالي تدميرها تبدو واعدة جدا. وهذا تأكيد آخر على أنه مهما بلغنا من العلم فما زلنا كبشر لا نعرف الكثير من أسرار هذا الجسم البشري الذي خلقه الله تعالى في "أحسن تقويم". وبالتأكيد لا يعمل كما الكتاب، أي كتاب مهما بلغت درجة دقته العلمية وتقدمه البحثي.
من بين مئات آلاف التراكيب في الجزيئات المكونة للجينوم البشري، قد يكون هناك اختلاف دقيق جدا بين جسم وآخر. وإذا كان العلم بلغ من التقدم أنه أصبح يحدد "البصمة الوراثية" – أي التركيبة الجينية للشريط الوراثي المزدوج في خلايا البشر – فإن ذلك لا يبدو كاملا تماما. وليس هناك بعد كتاب، ولا أتصور أنه سيكون هناك، يحسم تماما تفاصيل تلك البصمة الوراثية بدقة نهائية. إنما هي تقدير أقرب للدقة، مثلما تستخدم بصمة الإصبع للتمييز بين شخص وآخر. وإن كانت البصمة الوراثية أكثر تعقيدا واختلافا من إنسان إلى آخر. صحيح أن البصمة الوراثية الآن مهمة جدا في العلوم الجنائية وتسهم في حل قضايا كثيرة كان يصعب على السلطات حلها من قبل، لكن تلك السلطات ما زالت تستخدم بصمة الإصبع وتركيب الأسنان لتحديد الهويات وحل الألغاز في الجرائم وغيرها.
ما يهمنا هنا هو ذلك الاختلاف في التركيب الوراثي، والذي مكن الباحثين اليونانيين من الوصول إلى النتيجة المهمة بأن بعض البشر قد لا يصابون إطلاقا بفيروس كورونا حتى لو تعرضوا لعوامل الإصابة، أو كما تصفه الدراسة "أن يكونوا في خط النار". ويعني ذلك أن هناك في تركيبة الجينات في الحمض النووي داخل نوايا خلاياهم "توليفة" مختلفة في جين ما أو أكثر تمثل مقاومة طبيعية للفيروس، موجودة بالفعل وليست وليدة استثارة مثلما يحدث مع الأجسام المضادة التي يولدها الجسم إذا أصيب أو استشعر الخطر. والأرجح، أن تلك الاختلافات الدقيقة ربما تكون في تركيبة أنواع بروتينات على جدار الخلايا ضرورية حتى "يشبك" شريط الحمض النووي للفيروس مع الخلية ويخترق جدارها إلى داخلها. تسمى تلك البروتينات في الأغلب الأعم "مستقبلات"، وهي لا تستقبل الفيروسات أو الكائنات الدقيقة المعدية فقط وإنما لها مهام استقبال أخرى تتعلق بعمل الخلية حسب نوعها ضمن الوظيفة الإجمالية بالغة التعقيد للجسم البشري.
عذرا على الإطالة في تفاصيل بيولوجية ليس هذا مجالها، وإنما قصدت فقط توضيح أن ما توصل إليه العلماء اليونانيون قد يكون فاتحة خير لشكل من أشكال المقاومة للوباء، وربما غيره من الأوبئة المماثلة، يمكن أن يطوره العلم يفوق في جدواه اللقاحات وما يقال عنها أدوية للعلاج. فليس هناك أفضل وأقوى وأكثر مصداقية دفاعية ووقائية من العوامل الطبيعية التي خلقها الله في جسم الإنسان. وإذا توصل العلماء بمزيد من البحث والتجارب إلى تحديد سبب مقاومة بعض البشر الطبيعية للإصابة بفيروس كورونا فسيكون ذلك كشفا عظيما لصالح البشرية جمعاء. بل ويساعد العالم على الاستعداد لأي أوبئة محتملة غير معروفة بعد.