جودة مرسي:
تمتلك اللغة العربية الكثير من المتعة والمقوِّمات لتكون ساحة شعرية بين المتحدثين؛ لكونها أكثر لغة تملك تعابير عدة يتقارع بها الشعراء في مختلف المناسبات، وهي من أقدم اللغات في العالم ويتحدث بها ملايين البشر، وإن تعددت لهجات البعض منهم، إلا أنها في النهاية تعود بقواعدها إلى أصول اللغة، وأفضل ما تشرفت به اللغة العربية هو نزول القرآن الكريم بها، وقد ساعد ذلك على انتشارها، خصوصا وأن القرآن الكريم يساعد على اكتساب الألفاظ القوية المتعددة المعاني. وترتبط اللغة العربية ارتباطا وثيقا بالتفسير الصحيح لمعاني القرآن الكريم، وهذا ما قد يجعل البعض يرى اختلاف الآراء أو التفسيرات بين علماء الدين في تفسيراتهم لبعض المواقف القرآنية، وهذا ما يصعب فهمه عند العديد من عوام المسلمين الذين يجهلون القواعد اللغوية ببحورها الواسعة التي تعطي أكثر من معنى لاختلاف المواقف.
في إحدى المرات وأنا أتصفح "الفيس بوك" وجدت إعلانا لحلقة من برنامج تليفزيوني حقق نسبة مشاهدة كبيرة لمناقشة بين عالمَي دين جليلين لهما احترامهما الكبير بين متابعيهما، ويلجأ العديد من هؤلاء المتابعين إليهما ليستزيدوا من علمهما في توضيح أي من المسائل الفقهية التي يعجزون عن فهمها وتفسير معناها، أو يريدون تبيان الحلال من الحرام في فتواهم، فدفعني الفضول إلى مشاهدة الحلقة والتزود بمعلومة دينية تكون قد غابت عني ولم أعِها من قبل، خصوصا وأن الارتواء مما يزودنا به ديننا لا تنتهي لذته والرغبة في المزيد. وفي خضم تشوقي، بدأت أشاهد الحلقة التي ميَّزها نقاش حادٌّ بين العالمين الجليلين في مسألة دينية في غاية الأهمية لأهل العلم ـ أهل العلم وفقط ـ أي أن المسألة لا تهم عوام الناس في شيء؛ لأنها بعيدة كل البُعد عن ممارسات الشعائر اليومية، وتوقيعات الحلال والحرام. إلا أن ما أصابني هو هذا النقاش الحادُّ الذي كان يُدار بين العالمين الجليلين، ووصل في بعض مراحله إلى الصوت العالي وخروج بعض الألفاظ التي لا تليق بعالمَي دِين.
وهنا كانت الوقفة التي تأملت فيها أسلوب النقاش ومفرداته اللفظية والأدبية، وذهب خيالي للمتابعين المتأثرين بهما كيف يكون موقف هذه التخمة الذين يثقون في العالميْن؟ وما رد فعلهم في احتواء المادة التي تلقوها منهما، سواء آنية أو سابقة؟ وكيف لعالمين جليلين جعلا هذه البلبلة الفكرية تتسرب إلى أذهانهم؟ وبطبيعة الحال، ستكون الإجابة تائهة. وسيقول البعض إن اختلافهما رحمة، لتأتي إشكالية بناء الوعي لدى المتلقي، خصوصا وأن علماء الدين في مجتمعاتنا الإسلامية لهم الكثير من الاحترام والإجلال والتصديق؛ لما يتميزون به من حصيلة علمية ودينية كبيرة تؤثر في الآخرين وتجعلهم دستورا لتصديق كل ما يقال. واختتمت الحلقة النقاشية بانسحاب أحد العالميْن من الحوار بحجة التلفظ عليه بلفظ أساء إليه. وهنا تكمن الخطورة في مثل هذه الحلقات؛ لأن أول رد فعل لها هو اهتزاز الصورة المألوفة عن علماء الدين، وثانيها هو البلبلة التي تحدث في يقين المتلقي، خصوصا أن بعض الناس يمشون وراء ما يقوله العلماء الذين يعتقدون في سلامة آرائهم وتفسيرهم بشكل مطلق، لذا يجب على علماء الدين الابتعاد عن الأمور المتخصصة جدا التي لا تهم عوام المسلمين، وأن يكون الخطاب السائد هو تبسيط تعاليم الدين لتكون ميسرة بدون أي تعقيد أو أهواء، وأن يكون اختلاف العلماء فيه رحمة وتيسير على المسلمين بعد البحث عن الدلائل والاجتهاد في الأصح منها، واتباع ما اجتمعت عليه الأمة باتباع القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في كتابه الكريم "وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ" هود.