د. جمال عبد العزيز أحمد*
..والتوجيه السادس: أن (ذلك) اسم إشارة مبتدأ، و(الكتاب) بدل منه أوعطف بيان، أوخبر أول، وجملة:(لاريب) خبرثانٍ، أو حال في محل نصب ـ كما سلفـ وجملة (فيه هدى) خبر ثالث لاسم الإشارة، أي: أن القرآن الكريم قد أخبر بثلاثة أخبارمتتابعة، الأول: أنه الكتاب الحق الكامل في كل شيء، والثاني: أنه الكتاب المحقَّق الموثوق به، غير المضطرِب، أو المشكوك فيه، والثالث: أنه هدًى وصلاح تام، وكامل، وشامل، وجامع، ومانع لكل ألوان الهدى التي نزلتْ على جميع الأنبياء من قبلُ، فجمع كلَّ ألوان الهداية من يوم أنْ خلق الخلقَ إلى يوم يبعثون، وما عليك إلا أن تعتقد في ذلك، وتبدأ في اعتناقه، والعمل به، ونشره، والذود عنه، وعن كل ما ورد فيه، وما جمعه بين دفتيه، فهو آخر ما أنزله الهي للخلق، وفيه كل ما يُصلِح البشرية إلى يوم القيامة، إنْ هي عملتْ به، ودعَتْ إليه، وتمسكتْ بكل ما فيه بكل قوة، ومَسَّكتْ غيرَها، تحقيقًا لقوله عز وجل:(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)، فهم لا يَمسكون بأنفسهم، أو وحدهم فقط، وإنما يسعون لتمسيك غيرهم به، وتحبيبهم فيه والتمسُّك به.
والتوجيه السابع: أن (ذلك) اسم إشارة مبتدأ، وأن (الكتاب) بدل، وأن جملة:(لا ريب فيه) خبر المبتدأ، أو حال ـ كما ذكرتُـ وأن كلمة (هدى) هي خبر اسم الإشارة، والمعنى أن ذلك الكتاب هو الهدى الحقيقي الذي ينبغي أن نسعَى له، وأن نقتديَ بكل ما ورد فيه، أيْ أن الركنين الأساسيين في هذا التوجيه هما:(ذلك ... هدًى)، وما بينهما من مكملاتهما كالبدل، وعطف البيان، والحال، وكلها تكشف عن طبيعة هذا الكتاب الكريم، وماهِيَّتِه في كونه الكتابَ المستقيمَ الحقَّ الكاملَ، وأنه الكتابُ المتيقَنُ منه، غيرُ المشكوك فيه؛ ومن ثَمَّ فهو الهدى الكامل، الشامل، الجامع، المانع، النازل من ربٍّ حكيمٍ، حميد، يعلم مَنْ خلق وهو اللطيف، الخبير، العليم، الحكيم، الحليم، الرحيم، العظيم، الكريم.
والتوجيه الثامن: أن (ذلك) اسم إشارة مبتدأ، و(الكتاب) بدل أو خبر أول، وجملة:(لا ريب فيه)حال، أو خبر ثان، وتقف لتتنفس قليلًا، ثم تبدأ، وتقول:(هدى) أي: هو هدى، فكلمة:(هدى) خبر لمبتدأ محذوف، تقديره (هو هدًى)، أيْ: ذلك هو الكتاب، وذلك الكتاب هو الذي لا شك فيه، و(ذلك الكتاب فيه هدى)، و(ذلك الكتاب هو حقًّا هُدًى للمتقين)، فهي خبر رابع، فالخبر الأول هو (الكتابُ)، والخبر الثاني هو:(لاريب)، والخبر الثالث:(فيه هدى)، والخبر الرابع:(هو هدى)، لو وقفتَ عند قوله:(فيه)، وبدأت بكلمة:(هدى)، ووقفتَ، أي:(هو هدى..)، فيتحصل لك مبتدأ وأخبار أربعة، لها دلالاتها ومعانيها السياقية.
والتوجيه التاسع: أن كلمة (فيه) فيها وجهان، الأول أنها خبر (لا) النافية للجنس ـ كما سبق ـ وشبه الجملة:(فيه) متعلق بمحذوف، تقديره (كائن) أو (مستقر) أو (حاصل فيه)، وعندئذ تقف على كلمة:(فيه)، فتكون نهاية قراءتِك، والوجه الثاني: أن تجعل جملة:(لا ريب) هي آخر كلامك، وتقف، وعندئذ يكون خبر(لا) محذوفًا للعلم به، ولوضوحه، وتقديره:(لاريب فيه) أو (لا ريب منه) أو (لا ريب حوله)، أو (لا ريب آت من ناحيته، ومن تعليماته)، ثم تستأنف التلاوة قارئًا:(فيه هدًى للمتقين)، وتضغط على كلمة:(فيه)، فتقول:(فيه هدًى)، فيكون لفظ:(هدى) مبتدأ مؤخرًا، و(فيه) الخبر المقدم وذلك لبيان أن الهدى كله بكل ألوانه، وطرقه محصورٌفيه، لا في سواهُ لأن التقديم هنا للحصر والقصر، وبيان أهميته، وخطورة ما بين دفَّتيْه، وقصْر الهدى على الكتاب الكريم وحده، دون سواه من سائر الكتب، وأنه المقدم في كل زمان ومكان.
والتوجيه العاشر: أن تجعل اسم الإشارة (ذلك) مبتدأ، و(الكتاب) خبرًا، وجملة:(لا ريب فيه) حالًا في محل نصب، و(هدًى) هي الأخرى في محل نصب حال من (الكتاب) أو على المحل من كلمة:(فيه)، أي: لاريب فيه حالة كونه هاديًا، فالمصدر:(هدى) في معنى اسم الفاعل، والعامل في الحال هو معنى الجملة، أيْ: أحققه هاديًا، وأوقن به كذلك، وأعتقد في هدايته اعتقادًا جازمًا، لا شك فيه، ولا تردد معه مدى الحياة حتى لقاء الله.
أو أن العامل في الحال هو معنى التنبيه الذي في اسم الإشارة (ذلك) كما في نحو قوله تعالى: (وهذا بعلي شيخًا)، فالحال:(شيخًا) العامل فيها معنى الإشارة، والتنبيه في (هذا)، ونحو:(فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا)فـ(خاوية) حال، والعامل فيها معنى الإشارة، والتنبيه في اسم الإشارة: (تلك)، أو الحاصل من (تلك)، وهكذا نحو:(أن هذا صراطي مستقيمًا..)، فـ(مستقيمًا) حال، والعامل فيها اسم الإشارة (هذا) الذي هو اسم أنَّ.
فتلك عشرة توجيهات لآية واحدة، وكلُّ توجيه منها مرتبط أشدَّ الارتباط بدلالة عقدية،وتربوية خاصة بالكتاب العزيز، ولعلك تقول: كيف يشار إليه بـ(ذلك) وهو اسم إشارة للبعيد، مع أنه هو قريب، وقد تضمن اسم الإشارةتلك اللام، وهي حرف للبعد، والكاف للخطاب، ولم يقل:(ذا) مثلًا فنعجل بالجواب بأن اسم الإشارة هنا جاء للبعيد: مكانة، ومكانا، فالقرآن على كونه قريبًا من كل قلب مؤمن، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، إلا أنه بعيدٌ: منزلةً، ومكانة، ودرجة، فهو في مكانٍ عالٍ عند الله، وعند المؤمنين، يضعونه في عيونهم، وقلوبهم، وفي أشرف مكان في الكون، فهو عالٍ، وغالٍ، وهو قريب إلى نفوسهم، وحبيب، فالجهة منفكَّة، فهو قريبٌ على ألسنتهم: يتلونه، ويتابعون قراءته، وهو قريب لأيديهم، لكنه في الوقت نفسه بعيدٌ:مكانًا،ومكينًا، ومنزلة، ومقامًا، فهو فوق الرؤوس، وفي سويداء الأفئدة، وداخل القلوب، وحنايا الضلوع،على شاكلة:(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)، فهم قريبون من ربهم، ومن خلقه، لكنهم بعيدون: مكانة، ومنزلة، ومحبوبون عند عباده، يُفْدَوْنَ بالأرواح، والمُهَج، وهم موضع القدوة، ومناط الأسوة، فلا غرو أن يأتي باسم الإشارة (ذلك) للبعيد، وهو منا قريب، فهو قريب: تلاوة، وقراءة، والتزامًا، وبعيدٌ: مكانة، وتقديرًا، واحترامًا، وتعريف (الكتاب) بأل؛ لكماله وحضوره، سواء في حياتهم، أو انشغالهم به في عقولهم، وأفهامهم، في المساء والصباح، والغدو والرواح، بين أعينهم، وناظرَيْهم، وفي جوفهم، وقلبهم، وفؤادهم، يتلونه، ويلتزمون به، ولا يمكن أن يفارقوه، فلا يفارق عاقلٌ فؤاده، ولا يستغني واعٍ عن قلبه، وموضع وداده، حتى لو كان بعيدًا عنهم شكلًا، وهم في أعمالهم، وهم ماضون في الطرق، لكنه قريب قريب، وحبيب حبيب، مستعدون لافتدائه بأرواحهم، وكل ما يملكون من نفوس،وآباء، وأبناء، وأموال، ومهج، وآلاء، فهم لا يعيشون إلا به، ولا يتنفسون إلا من خلاله؛ ولذلك جاءت:(لا) نافية للجنس تنفي جنس الريب، وتعني جميع الشك، فهم ينفون عنه كلَّ ما يمكن أن يُسمَّى شكًّا، أو ريبًا، و(لا) النافية للجنس تنفي الجنس عن جميع أفراده، على عكس (لا) النافية للوحدة، فلو قلت:(لا إنسانَ مخلدٌ في هذه الحياة) فهذا يعني أنه لا استثناء لأحد مهما كان قدره، ومهما علا وضعُه، فالجميع بلا استثناء سيموت، أما إذا قلت:(لا طالبٌ هنا) برفع (طالبٌ) فيعني أنه يمكن أن يكون هناك طالبان، أو أكثر، فأنت تنفي الوَحدة، ولا تنفي الجنس، وهذا فارق كبيرٌ ما بين السماء، والأرض بين(لا) النافية للجنس، و(لا) النافية للوحدة، وتنكير:(هدًى) يدل على أنه لا يوجد هدًى بمعانيه الكاملة، ومدلولاته التامة الشاملة إلا في هذا الكتاب الكريم، وأنه لا استغناء مطلقًا عن هداياته، وكمالاته، وتعليماته، وكلِّآياته، وأنَّ كل كتابٍ مفتقرٌ إليه، وعيالٌ بين يديه، وعليه، وأن الكون كله في مسيس الحاجة إلى كل ما فيه، وجلال ما بين يديه، ودفتيه، والجميع مصمودٌ إلى ربه، وكتابه، فقد جمع كلَّ أطياف، وأصناف الهدى على مر الزمان، وتعاقب الحِدْثان، من يومِأن خلق الله الأكوان، وأَوْجَدَ الإنسان، إلى آخر يوم في هذا الزمان، حتى نعودَ إلى الله الكريم، المنان، الرحيم، الرحمن ـ جل جلاله ـ وتلاحظون معي أن الآية كلها ـ على اختلاف توجيهاتها، وتعدُّد أعاريبهاـ وردت بالجملة الاسمية، ليسفيها فعل واحد، فكلُّ توجيهاتها، وتخريجاتها النحوية جملٌ اسمية؛ وذلك لتفيد ثبات الحكم، واستمراره، وأزليته، وسرمديَّته، فسيظل هذا الكتاب هو الكتاب الحقيقي، غير المشكوك فيه أبدًا، وسيبقى هو الهدى، وهو الهادي باسم ربه، وهو الذي لنا وحده مع السنة المطهرة، فالحمد لله رب العالمين على جلال، وجمال، وكمال القرآن الكريم، فاللهم، ارزقنا فهمه، واكتب لنا العملَ به بكلِّ صدق وحُبٍّ، والدعوة إليه بكلِّ سبيل قويم، ووسيلة كريمة، والذود عن حياضه حتى نلقاك، يا رب العالمين، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.
[email protected]