خلفان الزيدي:
تبدأ حكاية “شاعرة الرسول” من لحظة تأمل للعنوان المرسوم على الورقة البيضاء، في جهاز الحاسوب، كانت لحظة صمت طويلة، في انتظار أن تشتعل الفكرة، وينطلق المعنى، ويتكامل الصدر مع العجز، وبيتا يتلوه بيت.. تبزغ القصيدة، وهي تنطق في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. لحظة الصمت هذه امتدت حتى الساعتين تقريبا، وعلى حد تعبير شاعرة الرسول (اللقب الذي ستحصده لاحقا)، “ساعتان نتبادل النظرات، لا هو نطق، ولا أنا نطقت”، وأردفت وصفا للحظة الصمت المتبادلة “شكلنا داخلين على علاقة معقدة”. كان وحي الفكرة يحوم حولها، وكانت تبصر القصيدة وهي تتشكل، فيما تواصل قطف الكلمات، وترصعها على الورقة البيضاء التي بدأت تضيء، وكأنها كوكب دري، أو قل كأنها “قنديلٌ من الغار”، وكان اشتعال الفكرة حينها.. (اخلعْ جراحَكَ بالسطرِ المُقدَّسِ).. هنا تجلت الشاعرة، وقلبها يخفق أن لا تطول الكلمات عنان الحضرة النبوية، ولا تبلغ أدنى مراتب الوصف والثناء، فالموصوف هنا، والممدوح هو خير الكائنات، وأعظم بني البشر، وهو الرحمة المهداة، و(النُّورَ الذي ما لاحَ مثلُ سَنَاهُ).
كانت حروف القصيدة تتشكل، كقلادة درية، والمشاعر تهتز مع كل بيت تكتمل قافيته، وكانت الشاعرة وهي تخط قصيدها، تشعر وكأنها تحلق في ملكوت الله الواحد، ملكوت العشق والجمال، محفوفة بعناية الله ورعايته، تأتيها أبيات القصيد من كل صوب، وهي تقبض ما تيسر منها، ليشتعل القنديل نورا، وترتاح النفس، وقد تلونت الورقة البيضاء بالكلمات التي استبدلت هنا، والتي شطبت هناك، وعدلت في سطر آخر.
لقد اختتمت قصيدتها بذات وحي السطر المقدس الذي بدأت به: (سطرًا عليًّا، كمن في نقصِهِ اكتملا).
وكان ذلك مدخل الحكاية..
الحكاية التي وقفت فيها الشاعرة العمانية بدرية البدري، وهي تعاين جمهور مسرح دار الأوبرا بكتارا، في العاصمة القطرية الدوحة، والبشر يعلو محياها، قبل أن تسمع إعلان النتيجة التي توصلت إليها لجنة تحكيم جائزة كتارا لشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت في تلك اللحظة تستعيد صورة جدتها رحمها الله التي واتتها في المنام، وهي فرحة بالهدية التي جلبتها إليها حين وصولها من قطر، أو تسمع صوت والدها رحمه الله ونداء الله أكبر يتردد في الفضاء الفسيح، كانت على غير عادة المتنافسين في المهرجانات والمسابقات مطمئنة إلى أن ثمة ما يسرها ويبهج خاطرها، سيعلن بعد قليل.
قبل ذلك، وفي التصفيات الأولى المؤهلة، كانت بدرية البدري تشعر ببعض القلق والارتباك، أتراها تصعد من بين هؤلاء الشعراء؟، أترى قصيدتها تحوز موافقة المحكمين؟، كانت تسمع أسماء المتأهلين السبعة واحدا بعد الآخر وهي تنتظر اسمها، وكانت الأسماء تتوالى، وقد أعلن أنها ستكون غير مرتبة بأي صفة كانت، وبعد أن اعلن الاسم السادس.. ارتبكت قليلا، فهذه اللحظة قد عاشتها من قبل حين لم تتوفق في التأهل في ذات المسابقة، قبل بضع سنوات، وقد أخذتها الظنون لحظة من الزمن، أن الحدث يعيد نفسه، وهي التي عادت للمسابقة أكثر إصرارا على الفوز، والتأهل.
بدرية بنت محمد بن علي البدرية.. كان هذا هو اسمها، الذي تردد بعدئذ، وكانت الاسم السابع المتأهل إلى التصفيات التالية لجائزة شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، وعليها أن تخوض منافسة حامية للوصول إلى نهائيات المسابقة والتي تتطلب تأهل ثلاثة شعراء فقط، وقد تكرر الموقف ذاته، فتم إعلان تأهل الشاعر الأول، ثم الشاعر الثاني، ثم.. أخذتها الظنون والهواجس، هل تفعلها؟، وكانت لحظة ترقب، لم تطل كثيرا، فقد كان اسمها يتردد في جنبات المسرح، لقد تأهلت للمرحلة النهائية ضمن الثلاثة الأوائل لجائزة كتارا لشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، (يا الله، أي كلمة حمد تكفي، أحبك وأنت تعلم).
يوم الخميس الرابع من نوفمبر 2021م، وفي الطريق إلى التصفيات النهائية، كانت تسمع أن العادة جرت في هذا المهرجان، أن يفوز بالمركز الأول آخر الشعراء إلقاء، وأن من يلقي أولا سيحصد المركز الثالث، لكنها أعرضت عن هذا القول، وبددت الشك بيقين بدأت تشعر به، ويحدثها قلبها أنها فائزة بالمركز الأول بإذن الله، كانت صورة الحلم ماثلة أمامها، وقد رأت جدتها رحمها الله تستقبلها بالبشر والترحاب، وتناولها هدية ابهجت خاطرها. كان شيء ما يحدثها، أن الهدية هي البيرق، ولذلك حين قيل لها أنك ستكونين أول الشعراء إلقاء، لم تأخذها الظنون، وينتابها الشك فيما سمعت، فقد اختيرت كأول الشعراء إلقاء بحسب الحروف الأبجدية.
وقفت بدرية البدري على المسرح، وحدثت لحظة صمت، ثم ارتباك يسير، ثم راحت تقرأ من أول القصيد:
اخلعْ جراحَكَ بالسطرِ المُقدَّسِ، لا
يصدَّك الذنبُ عن وحيٍ بكَ ارتحلا
واصعد إلى السدرةِ العُليا بلا حَذَرٍ
من دافِقِ العشقِ، إنْ ناداكَ وانهملا
حينها عادت إلى اطمئنانها، وهدأت سريرتها، وقد شعرت في تلك اللحظة أنها تعلو بأبيات القصيدة، وترتقي مراتب الأولياء والصالحين، وكانت أن تلت بكل جوارحها، باقي الثناء:
اركضْ بقلبِكَ تلقَ الأرضَ مُغتَسلا
وكانَ وجهُك ما ألفيتُ في قلقي
فاخْضرَّ حرفٌ على غُصنِ الجوى ذَبُلا
يقودني الحبُّ كالأعمى؛ فيا بصَري.
في انتظار النتيجة، كانت بدرية البدري تعيش شعورا، مختلفا عن مشاعرها في مسابقات أخرى تواجدت فيها، لم تكن تشعر هنا بأي قلق، كانت مطمئنة، مستريحة البال إلى النتيجة، وموقنة أن ابتسامة جدتها، لن تخذلها، وأنها نحتت من أعماق قلبها أبيات متوجة بالحب والجمال، وأنها تسامت إلى مراتب عليا، فأي مشاعر فخر تنتاب المرء، بعد أن وفق في سبك الكلمات التي تليق بمقام النبي العظيم!!.
لقد جربت بدرية البدري من قبل الوقوف في مسابقات الشعر وحتى الرواية، وعرفت كيف يشعر المرء وهو ينتظر تلاوة اسمه، وكيف تهفو نفسه إلى مطالعة ورقة التحكيم، وكانت مشاعرها حينذاك تخفق وجلا، وتتسارع نبضات قلبها، لكنها اليوم غير ذلك، هي مبتسمة من قبل أن يتلو مقدم الحفل اسمها.
كان إعلان اسم الشاعر الفائز بالمركز الثالث، يعني أنها ابتعدت عن هذا المركز، وأن الذي سيتلى بعد ذلك هو اسمها لا محالة، وقد استعدت لهذا الإعلان.. ثم دوى اسم “بدرية البدري” في جنبات المسرح، باعتبارها أول شاعرة تفوز بهذا اللقب، والعمانية الثانية بعد الشاعر جمال الملا الفائز في الدورة الأولى، تفوز بلقب شاعر الرسول.
في تلك اللحظة.. وصلت رسالة إلى أهلها من قطر.. “الأول، الأول، الأول”، وعلى مسرح دار الأوبرا بكتارا، كانت تتردد أبيات من القصيد المتوج بالذهب، وكان المكان يتجلى، وهو يتلو:
لا أملِكُ الحرفَ لكنّي أراكَ بِهِ
فأُبصرُ النورَ طيفًا مرّ بي وَعَلا
وفاضَ نهرًا على شُطآن قافيتي
أحيا رميمَ حروفٍ أُقْبِرَتْ أَزَلا
خلعتُ كُلَّ جِراحيْ وانتبذتُ بها
سطرًا عليًّا، كمن في نقصِهِ اكتملا.