نجوى عبداللطيف جناحي:
قالوا إن الهمَّ يضني الإنسان ويضعفه ويوجع قلبه ويحزنه، والهمُّ إذا ما أصاب قلب الإنسان تداعت عليه الأمراض، ولكأن الهمَّ قد تعاقد مع الأمراض ليستضيفها في الأجساد التي يسكن قلوبها، فإذا ما سكن الهمُّ قلب امرئ، استدعى الأمراض لتسكن معه باقي الجسد، حتى يهلكه، فيقضي الإنسان أيامه الطويلة متنقلا بين المستشفيات باحثا عن علاج لأمراض جسده، فيتقاعس عن عمله، ويزهد الحياة الاجتماعية فيبتعد عن الأصدقاء والأهل وتغادر الابتسامة شفاهه، وتصبح ساعات المرح والضحك مجرد ذكريات يستدعيها بين الفينة والأخرى، ويصبح حلمه الوحيد أن يتعافى جسده من الأمراض، وينسى أنه لن يتعافى من أمراض جسده إلا إذا عالج قلبه من الهمِّ، فيستأصله منه بحيث لا يترك أثرا في قلبه، فإذا ما فعل غادرت الأمراض جسده وعاد معافى ليصادق الصحة ويتقلد تاجها، ويودع زيارة المستشفيات ليغدو إنسانا فاعلا في المجتمع، فيعود إلى عمله بكل نشاط، ويعاود زيارة الأهل والأصدقاء، ويرتاد المجالس الاجتماعية بأنواعها، وربما يقضي ساعات وساعات من وقته يتطوع لخدمة الناس ومساعدة الآخرين، ويعود لحياة المرح، لتسكن السعادة قلبه بدلا من الهمِّ، وتعود الابتسامة تزين وجهه فيتقبله الناس ويسعدون بقربه، فالناس يحبون مجالسة السعداء الذين تزين الابتسامة وجههم، ويعزفون عن مجالسة من يستلذون الحزن والهمَّ فيلقون الناس بوجه عبوس بائس.
نعم!!! أن يسكن الهمُّ والحزن قلبك أمر مذموم مرفوض، ولكن ليس كل الهموم، فبعض الهموم محمودة، فهي تقوي الإنسان، وتجعله محبوبا بين الناس، مقبولا في المجتمع، بل وتجعل له مكانة اجتماعية عالية بين قومه، فيزداد جسده قوة، ويسعد قلبه. مهلا أيها القارئ: إن قولي هذا ليس بكلام متضاد متناقض، وليس هو من أقوال الخرقاء، بل هو قول فصل بين الحقيقة والظن. فهناك هموم تضني الإنسان وتضعفه، وأخرى تقويه وتسعده وتسعد من حوله.
فالإنسان إذا ما انشغل بهمومه الشخصية الخاصة كانت هذه الهموم آفة تأكل قلبه وجسده، ولكن إذا ما حمل هموم الناس وهموم المجتمع، واهتم بالشأن العام فكان صاحب قضية يكافح لأجلها، فيحمل همَّ علاج مشاكل المجتمع وإسعاد الناس، احتشدت همته فقوي جسده وسعد قلبه وأحبه الناس، فانظر إلى من يحملون قضايا اجتماعية عامة تجدهم محبوبين بين الناس. فعلى سبيل المثال: تجد ذاك الذي يحمل همَّ تطوير المناطق والقرى غير الحضرية، فيشغل قلبه بهموم الناس الأميين والذين يعانون من الجهل، فيوجع قلبه حالهم ويحمل همهم، فيجتهد ويعمل ليل نهار ليكافح الجهل وينشر التعليم فلا يغمض له جفن ولا يهدأ له بال حتى ينشر نور العلم بين الناس، والبعض يحمل همَّ انتشار الأمراض في منطقة ما فيتعاطف معهم ويتألم لأجلهم، ويبكي حسرة عليهم، فهذا الهمُّ والحزن يدفعه للعمل والاجتهاد لحشد القوى والإمكانات لمكافحة المرض بالوقاية منه أو بالعلاج، وبالبعض يحمل همَّ المتضررين من الكوارث الطبيعية التي تهاجم بعض المناطق فينفطر قلبه لأجلهم ويسكن الهمُّ قلبه فيدفعه ذلك الهمُّ لقضاء ساعات طويلة، واستجماع قواه لإنقاذهم ونجدتهم ويضحي بالغالي والنفيس لأجلهم، والبعض يشغل قلبه بهموم المعوقين وتسهيل ظروف معيشتهم ومساندتهم، والأمثلة على هموم المجتمع كثيرة ولا حصر لها، وكلها تحتاج لقلوب بيضاء تشغل نفسها بها.
ومن يحمل هموم المجتمع والشأن العام يكون محبوبا من الناس، فيلتفون حوله، ويشاركونه هذا الهمَّ، فهو يعبِّر عمَّا في قلبه من حرقة لمصلحة الآخرين، فينقل هذا الهمَّ لمن يحيط به، فيتعاون معهم ويقودهم لعلاج مشاكل المجتمع، فيصدق عليهم القول: إن المصابين جمعتهم المصائب، ومن يحمل همَّ المجتمع يقدره الناس، بل يصل الأمر إلى تمجيده ورفع شأنه، وكلما كان هذا الشخص صادقا في حمله لهموم الناس، ولم تشُبْه مشاعر فردية ومطامع شخصية، ازداد حب الناس له وتقديرهم لهم، حتى يصبح مقصد الناس وقدوة لهم فيتبعون خطاه ويسيرون على نهجه. بل يطيب ذكره بين الناس حتى بعد موته فيغنم صدق دعاء الناس له.
ويؤكد الاجتماعيون أن هذا النوع من الشخصيات الذين يحملون هموم الناس والمجتمع وينشغلون بالشأن العام غالبا ما يتمتعون بصحة جيدة، وتطول أعمارهم، بل إن من يشغل قلبه وعقله بهموم الناس والمجتمع يحمي عقله من الخرف والزهايمر وآفات النسيان. فالعاقل الحكيم هو من يشقي نفسه بهموم الناس لينعم ويسعد، والجاهل هو من يشقي نفسه بهمومه. فها هو المتنبي يصدح بالقول الفصل في هذا الشأن فيقول:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
فاشغل قلبك بهموم الناس تغنم، وأبعد عن قلبك همومك الشخصية، بل واستصغرها في نفسك، تكبر نفسك وتسمو، واستبدل انشغالك بأحزانك وبقضاياك وشؤونك لتشغل قلبك بهموم الناس وقضاياهم، وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم... ودمتم أبناء قومي سالمين.