د. سعدون بن حسين الحمداني:
إنَّ التفاوض من مرتكزات الحياة البشرية المتمدنة، وينقل البشرية من حال إلى أحسن الأحوال. ولأن التَّفاوض الناجح يعتمد على الإقناع؛ لأنه يعتمد على اللباقة وحُسن الحوار، ولأنه مستند إلى معلومات مهمة فهو يحتاج إلى الفراسة وسرعة البديهة وحُسن الكلام والمنطق والإقناع والتَّلاعب بالكلمات بما يتناسب مع الموقف والتشاور مع المختصين لإيضاح الموقف من التفاوض.
الكثيرون منا قد يقعون في مواقف صعبة إذا لم يمتلكوا مهارات التَّفاوض وهي فقرة التشاور، وإذا تحققت المشاورة على وجهها الصحيح قبل التفاوض فإن لها من الآثار الإيجابية ما لا يخفى، وأن من أهداف التفاوض المتميز هو التشاور قبل المباحثات لغرض القضاء على الفردية والدكتاتورية والارتجال، وتجنيب الأمة آثار المواقف والقرارات الفردية.
صفة التفاوض لا تنطبق على الدبلوماسيين أو السياسيين أو رجال الدولة فقط، وإنما تبدأ من العائلة؛ لأن أي انهيار ـ لا سمح الله ـ في مناقشة موضوع ما قد تؤدي إلى تشتيت العائلة، وهو الطلاق بسبب انهيار مرتكزات التفاوض بين الزوجين حول نقطة معيَّنة أو عدة نقاط.
رسولنا الكريم (عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام) قدوتنا في فن التفاوض، وعلينا الاقتداء به والتعلم منه، حيث أثبت في كل المواقف مدى براعته في التَّفاوض. ونذكر هنا صلح الحديبية وقدرته العالية على التَّفاوض مع أهل قريش وتمكَّن بذكائه من حلِّ الكثير من المشكلات، ومثال ذلك التفاوض النبوي في صلح الحديبية حيث أفصح عن دبلوماسية عالية جدًّا تمتع بها رسولنا الكريم، فعندما بدأ بالتفاوض على شروط الحديبية لم يتنازل عن هدف التفاوض الاستراتيجي، بل تنازل عن رتوش وصغائر دون أن يُغير الثوابت، فلم يرَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أية مشكلة في كتابة (بسمك اللهم) بدلًا من (بسم الله الرحمن الرحيم)، كما أنه لم يجد أية مشكلة في كتابة (محمد بن عبدالله) بدلًا من (محمد رسول الله) لأن الثوابت باقية، فهنا تبرز القيادة والكفاءة في اتخاذ القرار المناسب، حيث ركز على جوهر التفاوض وأهدافه الاستراتيجية وجعل الطرف الآخر يشعر بأنه شريك له وليس ندًّا.
هذه العناصر الثلاثة (الدبلوماسية والقيادة والكفاءة) لا يمكنُ الاستغناءُ عنها إذا أردنا أن نبنيَ مجتمعًا راقيًا، بكل معنى الكلمة وهي: مثل الماء الذي يتكون من اتحاد ذرّة من الأوكسجين وذرتين من الهيدروجين، وصيغته الكيميائية تكتب على شكل (H2O) والذي لا يمكن الاستغناء عنه في حياتنا اليومية.
إنَّ القيادة هي عبارة عن قيام الشخص بعملية إقناع لأشخاص آخرين في مجموعة معيَّنة ضمن صلاحيات كبيرة تكاد تكون مطلقة للوصول إلى الأهداف التي يسعى إليها ضمن جدول زمني معيَّن وبأدوات معلومة القيمة. ويلعب القائد دور القدوة الإيجابية المركزية، وهنا تبرز صلاحياته وشخصيته بفنون القيادة وآدابها من خلال إقناعه للأشخاص والوصول إلى تحقيق أهداف منشودة مستندًا إلى الأهداف الإيجابية المرجوة للجميع، وحتى تكون القيادة ناجحة عليه بإقناع جميع الأفراد الذين تحت مظلته باتباع تعليماته بدون أدنى شك أو تردد، وأن يتحمل المسؤولية كاملة في حالة النجاح أو الفشل. ومصطلح القيادة يمكن أن تكون قدرة الشخص على التأثير أو فرض رأي أو قوانين معيَّنة ليس بالقوة وإنما بالإقناع.
أما الكفاءة، فيقول أحد علماء علم النفس الاجتماعي: إنَّ الكفاءة هي ليست في الشهادة ولا الدورات ولا حلقات العمل ولا طول الفترة المهنية، إنما هي تعتمد وتبنى بالدرجة الأساسية على الأخلاق الحميدة لمختلف الأديان والأجناس وما يحمله من صفات الصدق والأمانة وحب الخير للآخرين، والتضحية والوفاء والمطاولة للوظيفة التي يعمل بها من أصغر وظيفة بالعالم إلى هرم الدولة؛ لأن الموظف الأناني سوف يحرم زملاءه من أبسط حقوقهم، والدبلوماسي المتكبر لن يخدم إلا نفسه، والمعلِّم إذا لم يصبر على مشاكسة الطلبة لن يكون ناجحًا في عمله وإن كانت لديه شهادة دكتوراه، وكم من أُناس لديهم شهادات كثيرة ومتعددة ولكنهم غير أكْفاء بسبب حبهم لأنفسهم!
إنَّ من أهم أعمدة وجوانب الكفاءة هي الثقافة والخبرة، وهو الأساس المعتمد في اختيار المديرين والقادة لشغل منصب مهم، والتأكيد على الأخلاق الحميدة الحسنة المعروفة لدى جميع المجتمعات.
وتتعدد الكفاءة إلى عدة أنواع، الكفاءة الفردية: وهي عبارة عن المهارات، والمؤهلات والأخلاق العالية التي يمتلكها الشخص من خلال التجارب الشخصية، والمهنية، بحيث يستخدمها في تحقيق أهداف معيَّنة وبشكل فعال، والكفاءة الجماعية، وهي تضافُر جهود الكفاءات الفردية بعضها مع البعض وتعاونها من خلال التواصل الفعال بروح الأخوة والمحبة بين الأعضاء جميعهم في العمل، بحيث يشكِّلون فريقًا مهنيًّا واحدًا كأنهم رجل واحد قادر على تحقيق الأهداف المطلوبة بكفاءة ومهنية عالية وبكلمة واحدة وليسوا مختلفين في الآراء.
هذا إضافة إلى الكفاءة التكنولوجية التي تستند إلى العبقرية والذكاء الخارق في ابتكار النظم والبرامج، وهي تضاف إلى الكفاءة الإدارية والمهنية؛ لأنها ترتبط بسوق العمل، وغالبًا ما تسمى بالكفاءة الاستراتيجية العلمية الأكاديمية.