اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وهو اليوم الذي شاءت الإرادة الإلهية أن يخرج فيه إلى الوجود نور الهداية محمد بن عبدالله إيذانًا من واجد الوجود ببدء خير رسالة تنتشل هذه الأمة من ضلالتها وترتقي بها من دناءة الدنيا وأدرانها وشهواتها وملذاتها وظلمها، وتسمو بالإنسان وفكره وتحترم عقله وتوطد علاقته مع ربه ومع نفسه ومع أسرته ومجتمعه ومع الحيوان والجماد.
ونحن نعيش الذكرى العطرة لمولد رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، نظل نستذكر نهج صاحب المناسبة كخير نموذج يحتذى به على مر العصور والأزمان.
فقد كان مولده صلى الله عليه وسلم واصطفاؤه لتبليغ رسالة الإسلام رحمة للعالمين، كما كان في سلوكه أبرز مواطن الموعظة الحسنة.
فحين أنكره بعض قومه ورفضوا رسالته وناصبوه العداء هاجر إلى أرض غير الأرض، ووطن غير الوطن، لكنه كان مشحونًا بالإيمان لعدالة رسالته وعدم الاستعداد للتفريط بها حتى لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره كما قال لعمه أبي طالب حتى بلغ مراده وارتفعت راية الإسلام خفاقة في كل العالم، ومن هذه المناسبة نستلهم العبرة، عبرة الصبر على المكاره من أجل الوصول إلى الهدف وانتصار الحق وإن اقتضى الأمر دهرًا فليتغير الزمان والمكان ولنستعصم بالصبر والحكمة والموعظة الحسنة، ولنثبت على الحق، فما ضاع حق وراءه مطالب، وقد كان من حوله الصحابة يأتمون به ويأتمرون بأمره ويصدقونه فيما يقول دون أن يطلبوا منه الدليل المادي على كل موقف أو آية تتنزل عليه. كان صلى الله عليه وسلم صادقًا صدوقًا وكانوا من حوله طائعين مصدقين، فغدت الرسالة التي صبروا من أجلها تطبق الآفاق وتستقر في النفوس حتى الأعماق، واليوم يعلم القاصي والداني أن الإسلام أكثر الديانات في العالم اعتناقًا، فأوغر ذلك صدور الشانئين وأشعل حقد الحانقين، فاقتضى ذلك أن نصبر عليهم كما صبر أولو العزم من الرسل.
جميل أن تأتي مناسبة المولد النبوي الشريف في ظل ما تشهده الأمة من تمزق بسبب الكراهية والأحقاد والفتن والدسائس وموالاة الأعداء لاستذكار السلوك القويم للمصطفى عليه الصلاة والسلام وأخلاقه الحميدة واحترامه الآخر حتى ولو كان مخالفًا، وحواره مع المخالف بالقول بالحكمة والموعظة الحسنة، وحواره وتعليمه للمخالف والجاهل بالفعل كما فعل مع الأعرابي الذي بال في المسجد وهمَّ الصحابة به فمنعهم فقال لهم: لا تزرموه.. صبوا على مكان بوله دلوًا من ماء. فلم يكن العنف والقتل والإرهاب والتخريب والتدمير والتكفير ونشر الأحقاد والكراهية والفتن من سلوك الرسول عليه السلام ولا سلوك أصحابه الكرام، بل إنه ومعه أصحابه حاربوا هذه المظاهر قولًا ـ كما قلنا ـ بالحكمة والموعظة الحسنة، وعملًا بالقدوة الحسنة في القيام بالعمل الصحيح والحسن والذي يجد تأثيره في القلب وأثره في الاقتداء.
إن ذكرى ميلاد النبي فيها العبرة وفيها الأسوة الحسنة، فيها نموذج فذ للقدوة والاقتداء والبقاء على الحق (لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم) فلا بد أن يأتي بعد الشدة الفرج، تمامًا كما جاء الفرج للرسول الكريم بعد شدة البلاء. وها هي اليوم الجزيرة العربية كلها قد تحولت بفعل هذه المواقف النبوية المضيئة مركز إشعاع حضاري واسع النطاق شمل الذين أيدوا لأول وهلة والذين عارضوا انطلاق الرسالة المحمدية السامية لتشع بنورها على العالم أقصاه إلى أدناه، حيث كانت للأخلاق بما فيها من سمات السماحة وسعة الصدر والتواضع والرحمة والحلم وحب الخير، دورها الكبير في الدعوة، فشملت جميع الناس من مسلمين وغير مسلمين، إذ أخذ عليه السلام يسمو بأخلاقه عن كل خلق، فكانت سماحته وسعة صدره تستوعبان الأخطاء البشرية، ولم يقتصر عفوه على ما يصدر من أخطاء في شخصه، بل تعداه إلى ما هو أبعد من ذلك كتسامحه مثلًا مع المرأة التي دست له السم، فقد طبق مبدأ التسامح تطبيقًا عمليًّا كان له أثره في التأثير على أنفس وعقول غير المسلمين وقلوبهم، مما جعلهم يقتنعون بالإسلام ويعتنقونه طواعية ودون إكراه. إن على المسلمين مراجعة الذات بما يتوجب إيقاف الافتراءات عن دينهم وعنهم، وإظهار صورة الإسلام الحقيقية المحبة للسلام الرافضة لجميع أشكال العنف والقتل والتدمير، وأن الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة هو الركيزة الأساسية في منهج السلام في الإسلام.
إن هذا التاريخ النبوي المفعم بمشاعر الإنسانية والعدالة سيظل نبراسًا لمن أراد أن يستهدي به، كما أنه دواء شافٍ لكل نفس مريضة تريد أن تنتقص من قيمة الإسلام ورسوله الكريم.
أعاد الله هذه المناسبة الكريمة على حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ بالصحة والعافية وعلى الشعب العماني والأمتين العربية والإسلامية بالخير واليمن والبركات.