[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]
”.. عندما تكون المناسبة بهذا المستوى ووضع الأمة وحالها على هذه الدرجة والمستوى من الوهن والضحالة في الفكر والثقافة والسلوك والتعامل مع ماضيها التليد تدميرا وتخريبا فإن الكاتب يكون بين أمرين وطريقين فإما تجاهل المناسبة والهروب منها والإحجام عن الكتابة عنها إلى عالم آخر وموضوع مختلف سهل تناوله ميسور طرقه, وإما الولوج إلى عمق المناسبة بما تحمله من ثقافة ودروس وقيم وما تشكله من عظمة وقدسية ومكانة في قلوب الأمة...”
ــــــــــــــــــــــــــ
”في مثل هذا الأسبوع من مثل هذا الشهر لسنة ثلاث وخمسين قبل الهجرة أعلن الله كلمته من جديد, في استهلال هذا العربي الوليد” ـ أحمد حسن الزيات
عندما تشرق علينا المناسبات الكبيرة بأشعتها التي تملأ الكون نورا وبهجة وجمالا ونقاء, وهي كبيرة من حيث تأثيرها الواسع وما أحدثته من تغيير شامل في حياة الإنسان, في فكره وثقافته وسلوكه وعلاقاته الواسعة, هي مناسبات شامخة بأمجادها التي تسموا وترتفع لتصل إلى عنان السماء علوا ومكانة وإباء, فثقلها التاريخي المتصل بالحاضر المرتبط بالمستقبل وطهر مقاصدها التي غيرت من واقع الأمم وشكلت مجرى جديدا للحياة وصاغت تاريخا مشرقا مليئا بالإنجازات والطموحات والمفاخر والتغيرات الرائدة تضعها في هذه المكانة الكبيرة, وعندما تكون المناسبة بهذا القدر والسمو والمنزلة, وعندما تشير المناسبة وتذكر بمولد خير البشر وسيد الخلق رمز هذه الأمة ومنقذها والقدوة الأول فيها, من اصطفاه خالق الكون إلى هداية وإصلاح خير خلقه الإنسان, وعندما تهدف هذه الاحتفالية السنوية إلى التذكير بقيمة وأهمية وقدسية هذه الذكرى السعيدة على الأمة الإسلامية فإنها ترمي أيضا إلى ما هو أعظم من ذلك وأشمل وأبعد و إلا فما هي قيمة الذكرى وعظمة المناسبة وأهمية الاحتفالية إذا ما مرت على الأمة مرور الكرام فلم تأخذ من فحوى مضامينها إلا القشور ولم تستفد من جواهر معانيها إلا الشكل ولم تهتد إلى لب مفاهيمها ولم تتوصل إلى سمو أهدافها التي رسمت من أجل صلاح البشرية وصيانة وإعمار سلوكها والارتقاء بمستوى أخلاقها وتعاملها والتواصل مع المنهج الحق والقدوة الصادقة والمدرسة العامرة بالعلم والمعرفة المستمدة جذورها من النبع القرآني والخلق المحمدي التي أورفت ظلالها وأينعت ثمارها فكان النتاج حضارة إسلامية أشرقت شموسها وأضاءت أنوارها على الإنسانية التي كانت عوامل البلى تنخر في هيكلة بنائها وأسس تكوينها من وثنية شائنة شلت من حركة الفكر وغيبت المدارك وطمست البصر والبصيرة , وجاهلية جهلاء استحكمت في العقل والروح والجسد ومادية أفسدت الخلق والقيم ونزعت المثل الراقية والصفات السامية من السلوك والمنهج الإنساني , فتلقت البشرية الحضارة المحمدية السمحة بالبشر والارتياح والترحاب الحار وبالطمأنينة الراسخة وفتحت مدنها وأراضيها للمبشرين الجدد الذين يحملون أوسمة الحرية وروح العدالة وثقافة الحوار ودعوة الخير والرحمة ومنهج حياة متكامل يمزج ما بين متطلبات الجسد والروح وبما يتناسب مع احتياجات وقدرات الإنسان.
عندما تكون الأمة التي تنتمي إلى الإسلام دين السلام والحق والعدل والفضيلة, وتدين إلى صاحب المناسبة ومحورها الذي يقترن اسمه مع لفظ الجلالة مع كل نداء إلى الصلاة في كل بيت من بيوت الله في كل جزء من جزئيات هذا الكون تذكيرا بفضله ومكانته أن قاد هذه الأمة إلى طريق الحق والهداية والنجاح والآفاق الواسعة وعرف بحقيقة الإنسان ومكانته وسعى إلى تحريره من قيود العبودية والوثنية, تعيش أسوأ أيامها وأتعس لحظات تاريخها غارقة في التخلف والجهل والضلال والتعصب الأعمى ماضية دون هوادة في طريق الهوى والتفكك والخلاف الذي تتوسع أبوابه مع كل غروب شمس يوم ينقضي من زمن هذه الأمة منكفئة إلى جاهليتها قافلة نحو وثنيتها, عارضة عن منهج الحق وطريق الصلاح عازفة عن الخط المحمدي الذي تحتفل بمولده وتتبجح بأنها تسير على خط سيره وترتشف من معين إشراقاته.
وعندما تكون المناسبة بهذا المستوى ووضع الأمة وحالها على هذه الدرجة والمستوى من الوهن والضحالة في الفكر والثقافة والسلوك والتعامل مع ماضيها التليد تدميرا وتخريبا فإن الكاتب يكون بين أمرين وطريقين فإما تجاهل المناسبة والهروب منها والإحجام عن الكتابة عنها إلى عالم آخر وموضوع مختلف سهل تناوله ميسور طرقه, وإما الولوج إلى عمق المناسبة بما تحمله من ثقافة ودروس وقيم وما تشكله من عظمة وقدسية ومكانة في قلوب الأمة وما تطرحه من تساؤلات وإشكاليات محورية يشكل التناقض والحالة والبعد عن جوهر ومنهج وعقيدة الإسلام وأخلاق رائد وصاحب المناسبة, والغرابة من تلاشي الأثر الذي يجب أن تخلقه هذه المناسبة وغيرها من المناسبات وعدم ملامستها للشعور والوجدان وانعدام قدرتها على التغيير والتحويل برغم ما تحمله من حب وقدر وما تختزنه ذاكرة الأمة وتاريخها وماضيها من إشراقات وكنوز فكرية وثقافية وما يمتلكه حاضرها من مقومات تأتي في صلب هذه التساؤلات.
من أقوال الرسول الأعظم محمد:
ـ ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع.
ـ اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام.
ـ لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم سفك بغير حق.
ـ الساعي على الأرملة, والمسكين, كالمجاهد في سبيل الله, وكالذي يقوم الليل, ويصوم النهار ...
ـ ما خففت عن خادمك من عمله فهو أجر لك.
ـ من سافر في طلب العلم كان مجاهدا في سبيل الله ومن مات وهو مسافر يطلب العلم كان شهيدا.
ـ ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشدهم.
هذه هي فلسفة الرسول وهذا هو منهجه في الحياة وهذا مبدأه الذي قضى حياته مدافعا ومجاهدا ومضحيا ومعلما من أجل أن يغرسه في الأمة قولا وعملا دون أن يتنازل عن جزء من جزئياته قيد أنملة برغم ما تعرض له من ترغيب وترهيب وتعذيب ومحن ومعوقات وامتحانات, لقد عاش حياته ووظف عمره وتنازل عن راحته وسعادته ودنياه من أجل سيادة العدالة والحرية والنظام والتمسك بالمبدأ واستعادة الحقوق ونصرة المظلوم لقد حارب من أجل أن تبقى للإنسان إنسانيته وروحانيته وقيمه العظيمة بالكلمة المعبرة والموعظة الحسنة والعمل الصادق المقنع.
هذه هي ديمقراطية محمد وهذه هي عدالة الإسلام وهذه هي الحرية والرحمة والرأفة بالإنسان تتجلى في كلمات مضيئة قالها نبي هذه الأمة وعمل بها خلفاؤه قبل أكثر من ألف سنة فسادوا بها الأمم , وعندما تلاشت من ثقافتنا وفكرنا ولم يصبح لها أثر ملموس في سلوكنا وعملنا , تدخل الآخرون في شئوننا وفصلوا لنا ملابسنا التي نلبس , وعابوا علينا ديننا وعقيدتنا واتهمونا في كتابنا وسلوكنا وثقافتنا وفكرنا , وسعوا إلى تغيير نظامنا في شموليته وعموميته , وأصدروا تعليماتهم وتوجيهاتهم في صور شتى وما علينا إلا خيار تنفيذها , وذلك بدعوى أننا همج أعراب لا نتقن إلا فن الإرهاب ولا تحكمنا سوى الدكتاتورية فقدموا من أجل تحريرنا وتسييسنا ودمقرطتنا , ولأننا أصبحنا لا نتقن إلا فن الكلام والاحتفال بالمناسبات دون أن نقرأها ونفهم دروسها انتصر الآخرون علينا في كل شيء , ولأننا لم نعمل بالحكمة القائلة (( المثل العليا لن تستطيع أن تلمسها بيديك ولكنك كالمقاديم من البحارة تتخذها مرشدا لك وتتبعها فتبلغ غايتك )) لم نتمكن من التحرك إلى الأمام خطوة واحدة فلا نحن تمسكنا بمبادئنا وقيمنا وأصول ديننا , ولا نحن أخذنا بأسباب القوة والعلوم والإنجازات والتطور الذي تشهده دول وشعوب العالم , فبقينا أسرى للجهل والتخلف وصرنا مضغة للأعداء والطامعين , ولم تعد لنا أية إسهامات وإضافات على الحضارة العالمية في إنتاجها العلمي والمعرفي والثقافي والصناعي والغذائي .
وأخيرا فإنني لم أجد ما أختم به هذا المقال أفضل من بضع كلمات قالها مصطفى صادق الرافعي بهذه المناسبة (( وعجيب أن يجهل المسلمون حكمة ذكر النبيّ العظيم خمس مرات في الآذان كل يوم, ينادى باسمه الشريف ملء الجو, ثم حكمة ذكره في كل صلاة من الفريضة والسنة والنافلة, يهمس باسمه الكريم ملء النفس وهل الحكمة من ذلك إلا الفرض عليهم ألا ينقطعوا من نبيهم ولا يوما واحدا من التاريخ, ولا جزءا واحدا من اليوم, فيمتد الزمن مهما امتدّ والإسلام كأنه على أوله, وكأنه في يومه لا في دهر بعيد, والمسلم كأنه مع نبيه بين يديه تبعثه روح الرسالة، ويسطع في نفسه إشراق النبوة, فيكون في أمره كالمسلم الأول الذي غيّر وجه الأرض, ويظهر هذا المسلم الأول بأخلاقه وفضائله وحميّته في كل بقعة من الدنيا مكان إنسان هذه البقعة, لا كما نرى اليوم؛ فإن كلّ أرض إسلامية لا يكاد يظهر فيها إلا إنسانها التاريخي بجهله وخرافاته وما ورث من القدم , فهنا المسلم الفرعوني، وفي ناحية المسلم الوثني, وفي بلد المسلم المجوسي, وفي جهة المسلم المعطل ... وما يريد الإسلام إلا نفس المسلم الإنسانيّ0 لا تنقطع من نبيك العظيم، وعش فيه أبدا، واجعله مثلك الأعلى , وحين تتذكره في كل وقت فكن كأنك بين يديه , كن دائما كالمسلم الأول , كن دائما ابن المعجزة ))0