د. أحمد مصطفى أحمد:
يشهد العالم في الشهرين الأخيرين ارتفاعا في معدَّلات التضخم في أغلب دوله، لكن البنوك المركزية في الوقت نفسه لا تتسرع في استخدام الأداة الرئيسية لديها لكبح جماح التضخم. فالوظيفة الأساسية للبنوك المركزية هي إدارة دفة السياسة النقدية، بشكل مستقل إلى حد كبير عن سياسات الحكومات، لضبط نسبة التضخم. وأداتها الرئيسية في ذلك هي تشديد السياسة النقدية في حال ارتفاع التضخم وتيسيرها في حال انخفاض التضخم. وتضع البنوك المركزية الكبرى مستهدفا لنسبة التضخم، تتصرف إذا زاد معدَّله عنه بشدة أو انخفض عنه بشدة. وحسب الحكمة التقليدية، وفي ظل ارتفاع معدَّلات التضخم حاليا بأكثر من ضعف المستهدف من أغلب البنوك المركزية، كان التقليدي أن تبدأ البنوك في تشديد السياسة النقدية: أي رفع نسبة الفائدة الأساسية والتوقف عن ضخ السيولة في السوق.
لكن أزمة وباء كورونا العام الماضي غيرت كثيرا من الأوضاع التقليدية، وبالتالي جعلت التعامل معها يحيد عما هو ثابت ومعروف من قبل. ويكاد يجمع الاقتصاديون وصناع السياسات النقدية على أن موجة التضخم الحالية "انتقالية"، ناجمة عن الانتعاش الكبير بعد ركود عام الوباء نتيجة الإغلاق الاقتصادي. وبالتالي فإن الإسراع برد الفعل عليها قد يؤدي إلى نتائج سلبية على النمو الاقتصادي الهش ما بعد أزمة الوباء، خصوصا وأن أسباب التضخم ليست داخلية فيما يتعلق باقتصاد كل بلد. وحتى يثبت أن تقدير البنوك المركزية حول التضخم وأن ارتفاعه مؤقت صحيح، يتحسب الناس في أغلب أرجاء العالم لاستمرار موجة ارتفاع الأسعار. ومنذ بداية هذا العام، ومع إعادة فتح الاقتصاد في أغلب دول العالم، وارتفاع الأسعار يسير بوتيرة تشبه ارتفاع درجة حرارة الأرض نتيجة التغير المناخي. حتى أن المثل التشبيهي التقليدي حول "نار الأسعار" يكاد يصبح حقيقة واقعة الآن.
لا يقتصر ارتفاع الأسعار على بلد بعَيْنه، فهي موجة "نار أسعار" تطول العالم كله تقريبا. كما أن الارتفاع لا يقتصر على أسعار السلع، بل يطول الخدمات وكل ما له "سعر". وحتى لا يظلم الناس حكوماتهم، فهناك عوامل كثيرة وراء ارتفاع الأسعار خارج سيطرة الحكومات المحلية. وإن كانت بالطبع هناك عوامل محلية في كل بلد تدفع الأسعار للأعلى وتزيد من نسبة التضخم، لكنها تظل أقل تأثيرا حاليا من تلك العوامل عالمية الطابع. فمنذ عام الوباء هناك مشكلة اضطراب شديد في سلاسل التوريد حول العالم، أدت إلى زيادة كلفة الإنتاج لكثير من السلع والبضائع وفي بعض الأحيان تراجع الإنتاج، ما يعني قلة العرض مقابل زيادة الطلب، وبالتالي ارتفاع الأسعار. لنأخذ مثالا يدركه العالم كله الآن: نقص رقائق الحاسوب (الكمبيوتر) نتيجة تعقد سلاسل التوريد جعل إنتاج السيارات في أزمة، ما أدى إلى قلة المعروض مقابل الطلب فارتفعت أسعارها بشدة.
يمكن سحب ذلك على كثير من السلع المصنعة التي ارتفعت أسعارها بنحو الربع في المتوسط مؤخرا. أما بقية المنتجات، فارتفعت أسعارها نتيجة عوامل عالمية أيضًا في مقدمتها ارتفاع أسعار الطاقة (نفط وغاز وفحم وكهرباء بالجملة). وتلك أيضًا عوامل خارج نطاق سيطرة حكومات الدول، فأسعار الطاقة تحددها معادلة العرض والطلب في السوق العالمية. ويؤدي ارتفاعها إلى زيادة أسعار كافة السلع والمنتجات تقريبا، التي تحتاج للطاقة لإنتاجها أو الوقود لنقلها من مواقع الإنتاج إلى منافذ الاستهلاك. هناك بالطبع بعض العوامل المحلية التي تسهم في ارتفاع الأسعار أكثر. على سبيل المثال، تعاني بريطانيا من نقص في سائقي الشاحنات يؤدي إلى تعطل نقل السلع والبضائع وبالتالي ارتفاع أسعارها. وفي بعض البلدان، تأثر قطاع الزراعة والإنتاج الحيواني بعام الوباء وبدأ أثر ذلك يظهر في الأشهر الماضية في ارتفاع أسعار الغذاء .. وهكذا.
لكن تظل العوامل العالمية وراء ارتفاع الأسعار هي المسيطرة. وإذا أخذنا في الاعتبار تقديرات الأسواق، فإن مشاكل سلاسل التوريد ستأخذ وقتا حتى تحل، وذلك نتيجة تراكم التأخير، لكنها في النهاية ستعود إلى طبيعتها، ما يعني تراجع الضغوط التضخمية، وبالتالي انخفاض الأسعار. قد يأخذ ذلك أكثر من شهور، ربما ما بين عام وعامين. أيضًا، يقدر كثير من المحللين في سوق الطاقة أن ارتفاع الأسعار لن يستمر طويلا وأنها ستأخذ في التراجع مع بداية العام القادم. وبالتالي يخف كذلك عامل الضغط على الأسعار ارتفاعا نتيجة كلفة الطاقة العالية. تبقى العوامل المحلية تحديا أمام حكومات الدول، لتواجه كل منها الأسباب الداخلية لارتفاع الأسعار. وقد يكون من بين تلك الأسباب ما ليس له علاقة بمعادلة العرض والطلب أو زيادة كلفة الإنتاج والنقل، بل بعض الممارسات الاحتكارية أو جشع التجار. ولأن تلك عوامل اعتادت الحكومات على مواجهتها والتعامل معها تقليديا، فلن تكون هناك مشكلة في معالجتها ما إن يخف تأثير العوامل الخارجة عن إرادتها كسلاسل التوريد وأسعار الطاقة.
من المهم الإشارة هنا إلى أن الدعم الحكومي قد لا يؤثر كثيرا في الحد من التضخم أو وقف ارتفاع الأسعار، طالما أن الضغوط التضخمية تأتي من خارج الاقتصاد المحلي. ولعل تروي البنوك المركزية في تشديد السياسة النقدية يوفر متنفسا للناس كي لا تعاني أكثر بسبب التضخم وارتفاع الأسعار. ذلك على أمل أن هذه الموجة مؤقتة وستأخذ في الانحسار قريبا وتبرد نار الأسعار.