محمود عدلي الشريف:
لا يزال حديثنا موصول حول مصارع السوء التي ينجي منها الله تعالى بعض خلقه لصنائعهم المعروف،وكما سبق وأوضحت لكم ـ أحبابي في الله ـ أن صنع المعروف له من الأثار الطيبة الكثير والكثير، يعود بالنجاة على صانعه، فإن الله تعالى يحفظه من كل ما يضره، وما أعجب هذا الحديث(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(تَدْرُونَ مَا يَقُولُ الْأَسَدُ فِي زَئِيرِهِ؟، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُسَلِّطْنِي عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرُوفِ) (مكارم الأخلاق للطبراني، ص: 355)،قال في الفردوس: المعروف الخير يُقال: زأر يزأر زأرا اه،(ثم إن ذلك القول يحتمل الحقيقة بأن يطلب ذلك من الله بهذا الصوت ويحتمل أن ذلك عبارة عن كونه قد ركز في طباعه محبة أهل المعروف وعدم أذيتهم، فظاهره أنه يقوله حقيقة ولا وجه للعدول عنها، والمعروف الخير، وفيه حث على فعله وإعلام بأن فاعله يدفع عنه الشرور)(فيض القدير 3/ 239).
ولنا في القرآن الكريم مثلًا قويًا ضربه لنا عن صنع المعروف والذي يأتي أجره مضاعفًا ومباشرة ودون تأخير، فها هو سيدنا موسى (عليه السلام) كيف أن الله تعالى أعطاه خير أجر على صنع المعروف، فقد سقا أغنام البنتين اللتين كانتا لا تستطيعان أن تزاحم الناس على الماء لحيائهن، فما أن سقا لهم سيدنا موسى (عليه السلام) حتى أعطاه الله تعالى مسكنًا طيبًا، وزوجة جميلة صالحة ابنة رجل صالح، وجد السكن والطعام والسراب والزوجة لصنعه للمعروف.
حقاـ أيها الأحبةـ فـ(صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، وهاتان حادثتان مما سمعناها مباشرة، تعطي الإنسان العاقل في هذا صورة واضحة، وتقرب المعنى البعيد: الأولى: قصة إنسان معروف، أنقذ حياته وجماعته، ورد عليه وعلى رفقائه ماله، يقص الشخص بنفسه قصته علي فيقول: كان جالسًا في مقهى، وجاء رجل من البادية وجلس، فبادر صاحب المقهى بالماء البارد، وبإبريق من الشاي، فشرب الرجل، وأراد أن يقوم، فأخذ يفتش في جيبه عن نقود فلم يجد، فأخذ صاحب المقهى يشتمه ويقول: إنك تحتال، وإنك كذا، فسمع هذا الرجل، ونظر إلى وجه الرجل فإذا به ليس من تلك الوجوه، فعزَّ عليه ذلك، فنادى صاحب المقهى وقال: كم حسابك؟ فذكر له المبلغ، فدفعه إليه، ونظر إليه الرجل، ومضى في سبيله، وبعد سنوات خرج هذا الرجل حاجًّا هو ورفقته، وفي أثناء الطريق داهمهم قطاع الطرق، وجردوهم من جميع ما معهم من متاع ومال، وأوثقوهم في حبل، وبينما هم في تلك الحالة، إذا بكبير العصابة يأتي ويتفرّس الوجوه، فإذا به يقف أمام هذا الشخص، ويتأمل في وجهه يقول الذي حدثني: لقد وقع في ظني أن له ثأرًا أو يريد اختياري للقتل، فما كنت أنتظر إلا الموت- ثم تفرس الوجوه مرة أخرى ونادى جماعته حالًا: أطلقوا هؤلاء الناس، وردوا عليهم متاعهم، وكل ما أخذتموه منهم، ولا أبرح مكاني حتى تفعلوا، وفكوا وثاقهم، وردوا أموالهم، ثم جاء إليه وأمسك بيده، وقال: هل يكفيك هذا بالثمن؟ فقال: أي ثمن؟! قال: أنسيت سنة كذا في المقهى؟ ـ دفعت عني ثمن الماء والشاي ـ سبحان الله!.
واعذروني -أيها الإخوة- إذا أوردت مثل هذه القصص، لكنها واقعية، وتذكرنا بنعمة الله علينا بالأمن والأمان، فهذا المعروف الذي صنعه هذا الرجل ما كان يتوقع أن يلقاه بعد ذلك، وماذا كانت النتيجة؟ رقبته وماله وجماعته معه فدية لثمن بسيط دفعه، فلا تتكاثر معروفًا تصنعه، والعوام يقولون: اصنع المعروف وألقه في البحر، فهو لا يضيع، وأما الجزاء من الله سبحانه وتعالى فهو أكبر وأعظم قدرًا،والثانية: قصة رجل ضل في الطريق، ودخل مغارة، وعجز أن يخرج، فطلبه أهله أربعة عشر يومًا فلم يجدوه، وبحثوا عنه في الآبار والمغارات، وفي كل مكان، وأيسوا من حياته، فدخلوا غارًا فوجدوه، وقد أخذوا معهم الإضاءة واللوازم، فأخذوه إلى البيت وسألوه: كيف كنت تعيش لمدة أربعة عشر يومًا؟! فقال: أولًا: أخبروني ماذا فعلتم في منيحة فلان؟ -بيت من جيرانه- مات والدهم وله أيتام، فمنح أيتام جاره حليب بقرة من بقره، فكان كل يوم يرسلها إليهم، فقالوا: كنا نبعث بها إليهم، وما قطعنها إلا بالأمس، قال: قد علمت ذلك، قالوا: وكيف علمت وأنت في ذاك المكان؟! قال:حينما ضعت عرفت أني هالك إلا أن يتداركني الله بلطفه،فجلست مظنة أن يأتيني أحد فيجدني قريبًا، فطال الانتظار وطال الوقت، وأنا لا أعرف ليلاً من نهار، ورفعت يدي إلى الله أسأله مع شدة الجوع والعطش، فإذا أنا أجد بين يدي غدارة -إناء عادي يحمل في اليد- فلشدة عطشي وجوعي أهويت بها على فمي، فإذا بها حليب بقري، وهكذا كانت تأتيني كل يوم، إلا بالأمس انقطعت عني، وهذا مما يبين قوله (صلى الله عليه وسلم) في الحديث:(تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، كان في وسط المغارة، ولا يدري عنه أحد إلا الله، وهذا من فضل الله،وقيل: إنّ امرأة وقعت في دبل العين -والذي أخبرني حي يرزق- فانخسف بها الدبل، وسقطت في الأرض ولم تستطع أن تخرج، ومكثت خمسة عشر يومًالا يعلم بها أحد، وقد كان لها غنم تعطي عجائز بجوارها من لبنها في طاسة من النحاس، فمرَّ شخص يمشي على ظهر الدبل فسمع صوتًا، فنادى فأجابته فأخرجوها، فسألوها كيف كنت تعيشين؟ قالت: طاسة الحليب التي كنت أعطيها العجائز اللاتي بجواري، كانت تأتيني كل يوم!.
أيها الإخوة.. إن وعد الله لا يحتاج إلى حكايات، ونقل أحداث، ولكن المؤمن إذا سمع شيئاً من هذا زاد يقينه، و(لقد كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو بين أظهرهم يرون المعجزات، ويرون خوارق العادات، فيزدادون إيماناً ويقيناً بالله) (شرح الأربعين النووية لعطية سالم 51/ 3، بترقيم الشاملة آليا).
فانظروا ـ إخواني الكرام ـ كيف تقي صنائع المعروف تلك المصارع السيئة التي لا يتقبلها أحد على نفسه ولا على أي إنسان، ففي (شعب الإيمان 10/ 388)عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (حُسْنُ الْخُلُقِ زِمَامٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فِي أَنْفِ صَاحِبِهِ، والزِّمَامُ بِيَدِ الْمَلَكِ، وَالْمَلَكُ يَجُرُّهُ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْخَيْرُ يَجُرُّهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَسُوءُ الْخُلُقِ زِمَامٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي أَنْفِ صَاحِبِهِ، والزِّمَامُ بِيَدِ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ يَجُرُّهُ إِلَى الشَّرِّ، وَالشَّرُّ يَجُرُّهُ إِلَى النَّارِ).
ما أحوجنا والله إلى أن نكون في كنف الله تعالى ورعايته وأختم هذا الجزء الثاني من هذا الموضوع الهام بما قيل:(ثلاثٌ من كن فيه كن له، من صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيّته زيد في رزقه، ومن حسن برّه لأهل بيته زيد له في عمره، ثم قال: وحسن الخلق وكف الأذى يزيدان في الرزق)،وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال:(والذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلبا سرورًا إلا خلق الله تعالى من ذلك السرور لطفا، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل)، وقال لجابر بن عبد الله الأنصاري ـ رضي الله عنهما:(يا جابر من كثرت نعم الله عليه كثرت حوائج الناس إليه، فإن قام بما يجب لله فيها عرّضها للدوام والبقاء، وإن لم يقم فيها بما يجب لله عرّضها للزوال) (المستطرف في كل فن مستطرف، ص: 126).. وحتى ألقاكم لكم مني أطيب الأمنيات.

[email protected]*