سامي السيابي:
جاءت برامج الأنبياء التربوية، والكتب السماوية زاخرة بتعاليم الأخلاق وتنميتها ورفع كفاءة تطبيقها، وما أتبعت من قوانين تضع الحدود لمن خالفها، وتعاقب من قصّر في تأديتها، ما يدل على أنّ الأخلاق كائن ينمو في بيئة النفس البشرية، يزيد نموه وينقص بحسن التربية أو التقصير فيها، تحتاج إليه السلوكيات البشرية لضبط ملكاتها،وقد جاءت فائدة إرسال الرسول وإنزال الكتب، لهداية البشر وتربيتهم تربية ترشّد الفضائل وتتمّم أخلاقهم، وتزكيهم من مساوئ الأخلاق، لإخراجهم من الظلمات إلى النور، يقول الله عز وجل في هذا:(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة ـ 2).
وقد قوبلت هذه الحقيقة، حقيقة التغير الأخلاقي الإنساني لدى علماء الاجتماع والفلسفة في العالم باهتمام واسع، وألفت فيها العديد من الأبحاث حول قابلية التغيير من ثباته، ورغم الحقيقة الساطعة في إمكانية تغير الأخلاق، إلا أنّ البعض يرى أنّ الأخلاق ثابتة لا يمكن تغييرها بحال، فمن جبلت نفسه على الشر لا ينتج منه إلا شرّا، وإن حصل تغيير فهو لا يزيد على كونه تغييرا سطحيا سرعان ما يعود إلى الحالة السابقة، ويستدلون على ذلك بتشبيههم للأخلاق بالعوامل الفيزيائية إذ تتغير بوجود عوامل خارجية كالماء مثلا؛ فهو يغلي بعامل الحرارة وإن زال العامل رجع لحالته الأصلية، وكذلك ساووا بين الأخلاق مع الجسد والروح، فهما ثباتان وبثباتهما تثبت الأخلاق، وفي ذلك يقول الشاعر:
إذا كان الطباع طباع سوء
فلا أدب يفـيـد ولا أديــب
واستدلوا بأدلة نقلية منها ما رواه أبو هُرَيرة، عَن النَّبِيّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم) قال:(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا) (رواه البزّار).
ويجاب على تلك الأدلة كلها أنه توجد علاقة بين الأخلاق مع الجسد والروح لكنها علاقة في حدود (المقتضى) وليست في (العلّة التامّة) لها، بمعنى أنه يمكن تهيئة الأرضية مع التنبه أنه ليس بالضرورة أن تؤثر تأثيرًا قطعيًا، ويدل الاقتضاءعلى إمكانية تغيير العوامل الوراثية للجينات، فمن أبوين سقيمين يمكن وقاية أولادهما جسديًا، وكذلك يمكن تغير الجسد الضعيف إلى قوة بعامل الرياضة والرعاية الصحية والطبية، ومن المعروف في الحيوانات الأهلية، أنها كانت وحشيّة فألفت الناس بالترويض، بل روضت حيوانات لتخالف طبيعتها المعهودة وهي تؤدي دورًا جديدًا بجدارة، وكذلك في النباتات حدثت تغييرات مختبرية في صفات بعضاها، مما يعني إمكانية التغيير في إيدلوجية الجسد والروح للكائنات الحية عمومًا وفي الإنسان كذلك، وفي جانب الأخلاق بالتجربة البشرية توجد أدلة تاريخية لا حصر لها في تغيير الكثير من الناس، من حال إلى حال مغاير تمامًا بالتربية والوعظ، فلما كانت الروح والجسد قابلة للتغير فتغير الأخلاق من باب أولى.
وفي قول ثالث يرى المحقق النراقي في كتابه (جامع السعادة): أنّ بعض الصفات الأخلاقية قابلة للتغيّر، وبعضها غير قابلة كالصفات الطبيعية والفطرية، وأما التي تقبل التغير فهي الصفات التي تتأثر بالعوامل الخارجية، وأجاب على هذا القول الشيخ الشيرازي بأنه لا دليل ثابت له، وهذا يخالف أدلة القول بالتغيير الثابتة.
واتجهالعالم (فلوريد) إلى قول رابع أنه من أن أول خمس سنوات ستحدد تشكيل الإنسان المستقبلية، ويكون ضحية على ما تعلم من أبويه ومجتمعه في ذلك السن المبكّر لطيلة عمره، لكن علم الأعصاب الحديث ينفي تلك النظرية فالدماغ مرن جدًّا بحيث يمكن أن تخلق من نفسك شخصية جديدة، بل يمكن أن تعيد بناء ماضي الإنسان.
ومن التجارب الملاحظة إذا نظرنا إلى نشوء الملكات سواء السيئة أو الحسنة يكون بالتأثر من جراء الأعمال التي يظل يزاولها الإنسان، حتى تثبتكعادة في فراش الروح ثم لتصبح ملكة، ولمعالجة السيء منها ينظر إلى سبب نشوء تلك الأعمال، للتغلب عليها بالتعوّد على فعل الصواب حتى يصبح ملكة، بمساهمة الإرادة النفسية والبرامج التربوية والدور المجتمعي.
وذكر الدكتور عدنان إبراهيم عن عالم الأعصاب الشهير (أندرو نيوبيرج) في كتابه (الكلمات يمكن أن تغير دماغك) أن المورثات الجينة الوراثية يمكن تغييرها بجعل مسارات جانبية تقاوم التغيير على المسارات التي يصعب تغييرها، فتبدأ أنماط جديدة في التفكير وفي المشاعر والعواطف وفي السلوك والعمل وبعد التعود عليها وممارستها ستخلق مسارات جديدة في الدماغ وهذا ما يعرف باللدونة العصبية (المرونة العصبية)، بخلاف ما قاله فلوريد، إذ توجد لوزة في الدماغ هي مسؤولة عن الناحية العاطفية، كلما زاد حجمها زادت حدة الطباع في النفوس والخوف والحقد والأنانية.. وغيرها حتى يصير الإنسان غير سوي، وإن تقلّصت تضاءلت معها تلك المشاعر السلبية، والذي يجعلها تتقلص هو إرادة الإنسان نفسه، من خلال تكرار طيب الكلام الموحى بالإيجاب، كتكرار كلمة السلام دائما أو اسم الله السلام ستتخلص من الخوف الداخلي إلى الاطمئنان والثقة، وتتبع سبل السلام والأمان، وهذا أمر ممارس في عبادتنا وتعاملنا فنحن نردد دائما التسليم في ختام الصلاة وأمرنا النبي(صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بإفشاء السلام لبعضنا وأمرنا كذلك بالذكر ودعاء الله بأسمائه الحسنى، فكل ذلك يغير من أخلاقنا وعواطفنا وسلوكنا نحو الأفضل، وكذا ينمي حب الله عز وجل في النفس، كما يمكن تغيير طريقة التفكير السلبية والولوج إلى طريقة الأفكار الإيجابية، ولكن بالتوكل لا بالتواكل، فإن تغير مستوى التفكير إلى الأفضل تغير مستوى تفكيرك وتقدمك، وكذا الاجتهاد الفكري والتجارب الفكرية والبحث والقراءة المبنية على أن الفكر يتغير للأحسن سيعطي تغييرًا هائلًا، وكأنك تشكّل ذكاءك بيدك، ويمكن أن نستدل بذلك بقوله تعالى:(وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، وتوجد في الدماغ ما يسمى بالخلايا المرآوية، تتفاعل بما تراه وكأنك أمام مرآة، ولها دخل في التغيير، وتعمل على عكس الصور التي تراها، يقول النبي:(تبسمك في وجه أخيك صدقة)، فبمجرد أن تبتسم لشخص سيبتسم لك وإن كان عابسًا،ويبدأ يتغير نحو التبشّر بالأمل، وتنزل من تلك الصدقة صدقة التبسّم تغييرًا في وجه الآخر ثم في نفسه وإن كان غير متفائل سيتفاءل ويتحسن أداؤه، بفعل تأثير الخلايا المرآوية، بل تستطيع تغيير ماضيك للأفضل، باستذكار الموقف السابق الذي أحدث ألما وترك أثرا له تبعات، كالكآبة والقلق والانهزام، ويحتاج إلى جهود مضاعفة.
وقدم العالم التربوي بياجيه نظريات في مجال النمو الإنساني تزامنا لمراحل نمو الإنسان، ومنها أتى بأسس للنمو الأخلاقي بغض النظر عن اتجاهاته الأخرى:
1ـ النمو الأخلاقي والنمو المعرفي: بارتفاع مستوى الذكاء ـ وليس العمر ـ يستطيعالعقل التعرف على الأفعال المشينة وغير المشينة، والذكاء وحده غير كاف لاتباع الأعمال الحسنة وتجنب عكسها، فهو بحاجة إلى قدرة.
2 ـ الخبرة المعرفية القائمة على المساواة: تتأتى الخبرة بالتفاعل مع الأقران من خلال المساواة بينهما فالمساواة تنشئ إدراكا بالأخلاق التعاونية، وهذه الأخيرة تنشئ أخلاقنا اجتماعية تحقق الانسجام بين أفراده، وإذا منح الأبوان الطفل شعورا بالمساواة فإنه يترقى أخلاقيا، مع مراعاة التزامات كل فرد ومظاهر عجزه، وتفعيل الجانب الوعظي والتعليم بالمثل الحسن والقدوة المثلى، دون اللجوء للنمط التسلطي في التربية.
3 ـ الاستقلال عن السلطة القسرية للكبار: كلما زاد التخلص من السلطة القسرية للكبار أقبل الطفل على أخلاقيات التعاون، وتخلص من التمركز حول الذات، وبهذا حذر بياجيه من الاتجاهات القسرية لأنها ترتبط بالنمو الأخلاقي.
والقول بثبوت الأخلاق هو القول بالجبر، وفيه تشبّه بما قاله أهل الظلالة من اليهود على أنفسهم إذ (َقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ) (البقرة ـ 88)، لكن الحقيقة التي نطق بها الوحي على لسان رسول الله أن الأخلاق تتغير بدليل قابلية الاكتساب والتحسين، قال (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، مَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ) (رواه الطبراني)، وعَنْ مَالِكٍ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ: آخِرُ مَا أَوْصَانِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حِينَ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الْغَرْزِ أَنْ قَالَ: (أَحْسِنْ خُلُقَكَ لِلنَّاسِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ) (رواه ملك في الموطأ).
* كاتب عماني