د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. وخلاصة القول: أن التوجيهَ النحوي للكلمة القرآنية، واختيار وجه إعرابيعلى آخر يكشف لنا عن جانب من جوانب بلاغة القرآن الكريم، ويبرز لنا منحى من مناحي عظمته، وشيئًا من جلال قِيَمِهِ، وسموِّ أهدافه، وكيف يكون التوجيه الإعرابي هو أحد الأسباب الكاشفة عن معطيات الكتاب العزيز، الموضحة لوجوه بلاغته، وكمال إعجازه، ومبرزة بجلاء لنواحي عظمته، ووجوه بيانه.
ومثال آخر على هذه الظاهرة الإعرابية المهمة في بيان أن التخريج النحويَّ للنصِّ القرآني هو احدى وسائل الكشف، والتوضيح لكمال وجلال الكتاب العزيز، وذلك في قوله تعالى:(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور ـ 37).
هنا كذلك نجد أن التوجيه النحوي لكلمة:(يومًا)، قد فعل فعْلَه، وأدَّى دوره،حيث توقَّف كثيرون من المعربين أمام توجيه تلك اللفظة القرآنية:(يومًا)هل هي ظرف زمان منصوب،لأنها من ألفاظ الزمان، أم أن معظم النحويين أعربوها مفعولا به؟، وما السبب في توقفهم، وتنبيههم على أن الأولى أن تكون مفعولًا به للفعل "يخاف"، ولا يعربونها ظرفًا للزمان، وما المغزى وراء إلحاحهم حول هذا الإعراب، والتوجيه النحوي الذي يبدو غريبا؟!.
ففي المجتبى من مشكل إعراب القرآن لزميلي الدكتور:أحمد بن محمد الخراطتجد أنه رفض أن تعرب (يومًا) ظرفًا، وأَّله بقوله:"ولا يصح أن يكون (يومًا) ظرفًا، لأن الخوف النافع لهم لا يكون في هذا اليوم، وكذا قال صاحب الجدول في إعراب القرآن وصرفه محمود صافي:(يومًا)مفعول به منصوب، وشبه الجملة (فيه) متعلق بالفعل:(تتقلب)، فأعربهمفعولًا به، ولم يعربه ظرفًا وبيَّن سبب ذلك، وفي (الدر المصون) للسمين الحلبي قال:(يومًا) مفعول به لا ظرف على الأظهر.
وكما نرى فإن معظم المعربين لها، قد وجَّهوها على أنها مفعول به منصوب، وأن جملة (تتقلب فيه الأبصار) في محل نصب نعت لكلمة (يومًا)، لكن لم إصرارهم على إعرابها مفعولًا، لا ظرفًا؟، وما دلالة هذا التوجيه وما ظلاله التربوية والإيمانية؟.
هناك قيمة ضخمة عقَدية تقف وراء هذا الإلحاح منهم كمعربين للكتاب الكريم: تكمن في أن المعنى على هذا التوجيه أنهم يخافون اليوم نفسه، لا ما وقع فيه فقط؛ لأنهم إذا تجاوزوا اليومَ، ودخل تحتَ مقدورِهم أمكنَهم أن ينظروا فيما سيقع فيه، فيما بعد، لكنَّ القرآن الكريم لم يضع كلمة:(في) قبل كلمة (يومًا) حتى يجعلهم يقتحمون اليومَ الجليل نفسه، ولا يهابونه هو ذاته كيوم قبل أن يدخلوا ليروا أهواله وما فيه، فإذا أعربناها (ظرفا) كان تأويلها (يخافون في يوم)لأن الظرف يؤول دائمًا على معنى (في)، فكأنهم تجاوزوا اليومَ، ودخل تحت مقدورهم، ولم يعودوا يهابُونه، وبدؤوا ينظرون فيما فيه، وليس هذا مقصودَ القرآن من النصب، إنما مقصودُه أن يخافوا اليومَ نفسَه قبل أن يدخلوا في أحداثه التي لا تنتهي:(وإن يومًا عند ربك كألف سنة مما تعدُّون)، وفي آية أخرى:(في يوم كان مقداره خمسينَ ألفَ سنةٍ) وليس فقط ألف سنة، فالمقصود أن يرتعدَ المؤمن عندما يسمع عن يوم القيامة ذاته، لا أن يفزع من أحداثه، ويستوعبه هو، فالخوف وقع على اليوم نفسه، ومنه، فالجميع يفرَق من أهواله، ومتاعبه، وخطوراته، ومراحله، ومنازله، وأحداثه الجسام، وأموره العظام، وليس الخوف حاصلًا فيه، أي (في اليوم) فهو مخوف منه، وليس مخوفًا فيه فقط، ومبكِيٌّ منه، لا مبكي فيه فقط، ومعمول له هو نفسه ألفُ حساب، لا معمول لما فيه فقط، فـ(يومًا) ليست ظرفًا، فهو معنًى صعبٌ عند مَنْ يعرفون قدرة الله، وشدة انتقامه، وعند مَنْ يقدس كلَّ لفظ في القرآن الكريم، ويعرف ظلاله، ودلالاته، ومواقعه، وجلاله، فيقف وَجِلًا، باكيًا عند هذا الإعراب، مستنزِلًا من دموعه ما يروي الأرضمن حوله ؛ خوفا، وهلعا، فاليوم مَهُولٌ، مَهُولٌ، وما فيه من أحداث يقضُّ المضاجع ويذهب الكَرَى عن الأجفان، وكان يُسمَع للصحابة عندما يَمُرُّون بتلك الآية نحيبٌ كثير، وأنين، وأزيزٌ في الصدر، وسيل الدموع على الخدود بكاءً، ودعاءً، لعلمهم بظلها الخطير، ومعناه الكبير، وتجد كذلك ما يؤكد هذا الإعراب والتوجيه عند صاحب التحرير والتنوير: ابن عاشور، حيث يقول:وانْتَصَبَ (يَوْمًا) مِن قَوْلِهِ:(يَخافُونَ يَوْمًا) عَلى المَفْعُولِ بِهِ لا عَلى الظَّرْفِ، بِتَقْدِيرِ مُضافٍ، أيْ: يَخافُونَ أهْوالَهُ، ومن هنا فلا يقبل قول، أو إعرابٌ يُضعِف هذا المعنى كأن تجد تأويلات خارجة عن المعنى القرآني الكبير، والمغزى الدلالي العظيم، حيث يذهب بعضهم على أنه منصوب على الظرفية، أو على نزع الخافض، ونحوه من تلك التوجيهات الضعيفة.
ولكن المحققين من العلماء إلى يؤكدون النصب في كلمة (يومًا) على المفعولية، فهو مفعول به للفعل (يخافون)، ولكن بعضهم زاد أنه على تقدير مضاف محذوف، أي يخافون عقابَ يومٍ، أو هولَه، أو أحداثه، وينسى أن الخوف أولا من اليوم، دون أن ندخل فيه، وفي أهواله، كما لا يقبل أن نوجهه على وجود (في) التي استغنى عنها القرآن؛ ارتكانا إلى فهم القارئ، أو ويكون التقدير عندهم:(يخافون في يوم)، كتأويل العلامة الآلوسي الذي ذهب إلى أن (يومًا) مفعول لـ(يخافون) على تقدير مضاف، أي عقاب يوم، وهوله، أو بدونه، وجعله (ظرفًا) لمفعول محذوف بعيد، وأما جعله ظرفًا لـ(يخافون)، والمفعول محذوف، فليس بشيء أصلًا، إذ المراد:(أنهم يخافون في الدنيا يومًا)، فالآلوسي لا يرتضي أن يكون (يومًا) ظرفًا للفعل (يخافون)، والمفعول محذوف، لدلالته على أنهم يخافون في الدنيا يومًا، والآية تشير إلى أنهم (يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار)، وهذا اليوم هو ـ بلا شك ـ في الآخرة، يوم القيامة، ولكن الأولى إعرابه مفعولًا به، لأن وراء هذا الإعراب وجهًا بلاغيًّا ساميًا يكمن في أن القرآن الكريم يفيض ثناءً على المؤمنين بهذا الكتاب الكريم، وبكل ما ورد فيه، ويهدف من وراء ذلك إلى إبراز شدة خوفهم من يوم القيامة، ومن أهواله، وأنه حاضر في أذهانهم، لا يغيب عن خاطرهم طرفة عين، ولا أقل من ذلك، فهم يخافونه دائمًا في حياتهم، وسلوكهم، وفي كل أعمالهم، لا يغيب مطلقا عن بالهم، ويتدخل في كل تصرفاتهم ومعاملاتهم، وهم يستعدُّون له بالعمل الصالح، وصالح العمل، وصدق التقرب إلى الله بالطاعات، وتواصل عمل الصالحات، ولو قيل:(يخافون في يوم) لدل التعبير قطعًا على أن خوفهم سيكون في يوم القيامة، داخل يوم الحساب والجزاء، وكما ترى في هذا التوجيه أنه تأويل وتوجيه ضعيف؛ لكونه جعلهم يقتحمون اليوم نفسه، ويتجاوزونه إلى ما فيه من الداخل، وفي هذا الفهم جرأة على اليوم نفسه، فالصواب توجيهه على أنه مفعول به، مخوف منه نفسه، لا مخوف فيه، ولا التفكر في أحداثه، وتجاوزه كمعنى ضخم، مهيب، رهيب، رعيب، فهم يخافون منه، وليس يخافون فيه فقط، إنهم يخافونه هو أولًا، ويرتعبون من ذكْره، ويمضون عاملين مخلصين مخبتين، وإذا مضوا يتذكرون أحداثه ذابت قلوبهم، وارتعدت فرائصهم، ولانت جلودهم، واخضلت لحاهم، وانهمروا بكاءًونحيبًا، ودموعًا ونشيجًا، ونظيره كذلك قوله تعالى:(إنا نخاف من ربنا يومًا عبوسًا قمطريرًا)(الإنسان ـ 10)، فانظر كيف وصف اليوم نفسه بهذه الأوصاف الخطيرة، فاليوم نفسه عبوس بوزن (فَعُول)، بصيغة المبالغة، أو الصفة المشبهة، وقمطرير، وما وزنها؟، وهل هي مأخوذة من (قمطر) بوزن (فعلل) أم من (قمط)، و(قمطريرا) بصورتها الصوتية بوزن (فعلليلا)، هي صعبة: نطقًا، ووزنًا صرفيًا، ودلالة معجمية، وسياقية، وناهيك عن التفكر في أحرف كل كلمة، وكيف تركَّبت، ووزنها، وتشكيلتها الصوتية المبكية، الرعيبة، الرهيبة، وأن إعرابها مفعولًا به، لا ظرفًا هو الأدخل في معناه، والأعمق في مبناها، فانظر كيف كان اختيار وجه من أوجه الإعراب أقرب إلى مقاصد القرآن الكريم، وخصوصًا في مجال الاعتقاد في اليوم الآخر، وأهواله، ومنازله، وأحداثه، وأن الخوف يكون منه كيوم، قبل أن يكون خوفا فيه، وفي أحداثه التي إن تجاوزناه اقتحمناه، وبدأنا لا نهابُ اليوم، وإنما نهاب ما فيه، وهو معنى غير مقصود، والأولى المصير إلى الإعراب الأدق، والتوجيه النحوي الأولى بالقبول، والذي يحقق الهدف، ويرمي إلى الغاية، ويترسم طريق القيمة التربوية المقصودة التي تدعو إلى صدق التزام، وسرعة امتثال، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.
[email protected]