نجوى عبداللطيف جناحي:
يا ويح نفسي من سهام اللسان، إنها ماضية صائبة جارحة وربما قاتلة، فهي لا تخطئ هدفها ولا تخونه، كم يتقن البعض فن الرماية باللسان حتى باتت عادة لديهم لا يتخلون عنها، وسلوكا لا يهجرونه، وحتى ألفوا معاناة من يحيطون بهم فلا يكترثون لآلامهم، هؤلاء الذين يصابون بسهام ألسنتهم فتدمي جراحهم ولا تكاد تندمل حتى يتلقوا سهما جديدا. لعمري إن هؤلاء الرماة لا يدركون مدى تأثير سهامهم على قلوب الآخرين، هم لا يدركون أن بعض سهامهم تحطم شخصية أقرب الناس لهم فتكسرهم وتحيلهم إلى رماد إنسان، وتفقدهم ثقتهم بأنفسهم، وكم أصابت سهامهم الجارحة المسمومة أقرب الناس لهم بالاكتئاب والحزن العميق. وتكمن المشكلة في أن الكثيرين، عندما يصابون بتلك السهام الجارحة، يكتمون جروحهم ولا يظهرون أثر هذه الكلمات على نفوسهم، هم يكتمون آلامهم في أكبادهم فلا يعبِّرون عن معاناتهم، فتنطفئ ابتسامتهم وتنكسر قلوبهم ويحل الألم في قلوبهم محل الفرح والسعادة، ويحدث في القلب خدوشا لا تبري، ويصاب بالتوتر النفسي، وتنطفئ همته وتنكسر عزيمته، وكم عزف شخص عن فعل خير أو نشاط ينفع الناس بسبب كلمة قتلت الحماس والطموح في قلبه. فللكلمة الجارحة تأثير خطير يتمثل كونها تشكل نوعا من الإيحاء الذاتي، فالكلمات تستقر في العقل الباطن، ثم تترجم بفاعلية إلى سلوك. ويؤكد علماء النفس أن الكلمات الجارحة سميت جارحة؛ لأنها تسبب جروحا حقيقية في الدماغ وتميت عدة خلايا أو تتلف عملها، مسببة نوعا من العطل في التفكير، ولهذا يعاني الشخص المجروح آلاما نفسية وشعورا سلبيا وإحباطا، ليس هذا فقط، بل كثيرا ما يتحول الشخص المجروح إلى شخص فاشل غير منتج، كما أن الكلمة من أقوى أسلحة العصر، ولن يستطيع العلم الحديث ـ مهما تطور ـ اختراع مهدئ للأعصاب أفضل من الكلمة اللطيفة التي تقال في اللحظة المناسبة.
نعم إن المجروح بالكلمات يكتم آلامه ولا يفصح عنها، فلا يدرك الجارح ما اقترف لسانه، ولا يدرك آثار فعله، بل هو يظن أنه ينطق بالحق والخير، وأنه جريء وقوي ولديه البسالة الكافية للمواجهة، والويل كل الويل إذا ما أفصح المجروح عن آلامه، ليجلده بالاتهامات فيتهمه بالضعف، وبأنه مدلل، وبأنه لا يتقبل الرأي الآخر، ولا يحب المصارحة، وربما اتهمه بالافتراء عليه، ويرى نفسه البريء المظلوم، فلا يملك ذلك الجريح إلا الصمت واستقبال المزيد من السهام الجارحة من سليط اللسان.
وقد يصحو سليط اللسان في لحظات ما ويقرر الاعتذار، ويطالب الجريح بنسيان آلامه، ترى أتزول جراح اللسان بمجرد الاعتذار. لعمري إن فعل جرح اللسان كذاك المسمار الذي يغرس في الجدار أو في الخشب، فإذا ما نزع منه ثانية يترك أثرا لا زوال له، ولا وسيلة لإصلاحه إلا بالترقيع. فَقِ نفسك جروح سهام سليط اللسان، وتجنب استفزازه والدخول معه في أية نقاش أو جدل، وعندما يرميك بالكلام الجارح تغافل عنه وتجاهله؛ لأنك إذا ما حاول الرد عليه ستعرض نفسك للمزيد من السهام، وقد علمنا القرآن كيف نتعامل في مثل هذا الموقف حيث قال تعالى في نهاية سورة الحجر ولكن قال الل : "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ". (99) فالتسبيح يقي القلب من أي أذى يسببه الكلام الجارح، ليس وقاية فحسب بل يشعرك بالرضا الذي سوف يستقر في قلبك ويشعرك بالصلابة، وكن مهذبا معه وتعامل معه بأسلوب أقرب إلى الرسمية لتضع حدودا له لا يتجاوزها، ولا تتبسط معه في التعامل، كي لا يتجرأ فيتطاول عليك بالكلام، وتجنب المزاح معه ما استطعت، وتعلم كيف توصل رسائل استنكار لسلاطة لسانه بلغة الجسد بمجرد أن يبدأ إطلاق سهامه، عبِّر عن رفضك لكلماته الجارحة بلغة الجسد بتعابير وجهك التي تدل على الاستنكار والاستياء، وبحركات جسدك التي تدل على عدم الارتياح، واترك المجلس الذي يجمعك معه بأسرع وقت ممكن، ليدرك أن الناس تنفر منه عندما يطلق سهام لسانه، فيصبح وحيدا مذموما مدحورا، وذكره دائما بأن الكلمة الجارحة هي مصدر للآثام وسبب لغضب رب العالمي فعن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وصيته له أخذ بلسانه وقال: "كفّ عليك هذا" فقال مُعاذ: يا نبيّ الله، وإنا لمؤاخَذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكِلتك أمك يا معاذ، وهل يَكبّ الناسَ في النار على وجوههم ـ أو على مناخرهم ـ إلا حصائدُ ألسنتهم؟" (أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح")، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يَحصُد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيرا من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع شرا من قول أو عمل حصد الندامة... ودمتم أبناء قومي سالمين.