د. رجب بن علي العويسي:
لمَّا كان الإعلام اليوم عين رقيب في قدرته على التغيير وهندسة الواقع وإحداث التحوُّلات، وإثارة الرأي العام، وضبط اتجاهات الأفراد حول الكثير من القضايا الوطنية، في مواجهة حالة الاجتهادية والعشوائية والتراكمية والمعلبات الفارغة وسيطرة المؤثرين في المنصَّات التواصلية، وأبواق مشاهير الغفلة، كانت قدرته على صناعة سلوك إعلامي رصين، وفق منهجية إعلامية متوازنة، ورسالة إنسانية أخلاقية تواصلية متفاعلة، مرهونة بمهارة التحليل التي تتعايش مع محطاته، ومستوى العمق الذي يؤسسه في برامجه وقنواته ودوراته البرامجية، إذ إن السطحية المفرطة ستكون كارثية على الإعلام ذاته؛ كونها لا تقدم محتوى إعلاميا رصينا، أو تحليلا إخباريا قادرا على الولوج إلى عمق الحدث، وسيظل يعتمد على السرد المتكرر، والمختصر المخل، أو يدور حول نفسه في حلقة مفرغة، كما أن العمق الإخباري وسمة التحليل التي تتفاعل مع الدورة البرامجية والأخبارية شاهد إثبات على المهنية الإعلامية والمصداقية في العمل، لذلك لم يعد جمهور اليوم يعتمد على سطحية قراءة الحدث، بقدر تركيزه على تحليل ما بين السطور، وتفسيره للأفكار الغائرة بين الجمل والعبارات، ونوعية الأفكار العملية التي تنتج من خلال عمليات التحليل المعمق للحالة الإخبارية.
فإن ما قدمه الإعلام من مؤشرات في تعاطيه مع العديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية في مراحل سابقة، وحجم العتب الذي يتحدث به ومتخذو القرار يشير إلى حاجة الإعلام الوطني إلى إعادة هيكلة مهامه وأولوياته وأجندته وبرامجه. ولعل حالة الفجوة الحاصلة في التقرير الإخباري والاتجاه إلى الاختصار والسطحية والشكلية في تناول الموضوعات، والقالب المحدد للمتحدثين والإعلاميين الذين يتم استضافتهم بات يلقي بثقله السلبي على قناعات المجتمع وفئاته فيما تقدمه هذه الممكنات الإعلامية الرسمية من برامج، لتتجه بدورها إلى المنصَّات الإعلامية الأكثر عمقا في التحليل وقراءة الأحداث ورسم سيناريوهات العمل، والكشف عن جوانب القوة والضعف، وتبنِّي الإجراءات القادرة على سبر أعماق الموضوع، وهو ما أوجد فجوة تواصلية واسعة بين الإعلام الوطني والشارع المحلي.
وعليه، يفرض واقع الإجراءات التي اتخذتها الحكومة بشأن معالجة الديون والعجز الحاصل في الموازنة العامة للدولة، وقضايا التوظيف والتشغيل والتسريح والتعمين، أهمية إعادة توجيه مسار الأداء الإعلامي ليمارس دورا تحليليا يضمن قدرته على الغوص في أعماق التجربة والخبرة ورصد المتغيرات والمؤثرات الحاصلة فيها، وترسيخ وعي المواطن حول الكثير من القضايا والتوجُّهات الوطنية وموقف الحكومة منها والتي ما زال يبحث عن إجابات حولها، مع افتقار الحالة الإعلامية الحالية عن إعطاء صورة مكبرة للمواطن حول ما يحصل من توجُّهات، وبالتالي المساحة المتاحة للبرامج الحوارية التفاعلية المعمقة في سبر أعماق القضايا والأحداث الداخلية التنموية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والتعليمية، وتبنِّي سياسات إعلامية تحليلية تعزز من حجم البدائل التي تصنعها المنصَّات الإعلامية، وتؤسس لمرحلة من الوعي والمهنية في الطرح، بحيث يتم تناول الموضوعات المطروحة واختيارها وانتقاؤها بما يجسد اهتمامات الشارع الوطني ويرصد كل محطات التحوُّل الحاصلة، ويقرأ سيناريوهات العمل القادمة، وموقع المواطن في منظومة العمل، ودور الحكومة ومسؤولياتها في تقديم مبادرات جادة أو مسؤوليتها في خلق حراك مؤسسي قادر على تحقيق تحوُّل في استراتيجيات الأداء، وهو أمر بات من الأهمية بمكان لضمان أن ما يقدمه الإعلام الوطني يتناسب مع طبيعة الاحتياج الوطني، ويتوافق مع رأي الشارع العماني، ويستجيب لأولويات الشباب ويحتضن أفكاره وطموحاته ومواهبه، ويقدم مادة إعلامية أصيلة منتجة لها صلاحيات الاستمرار، وتحظى باهتمام الرأي العام الوطني، ولا يمنع أن يقدم الخبراء وذوو الاهتمام وأصحاب الرأي والمحللون الاقتصاديون والاجتماعيون وغيرهم نتائج الدراسات والمقارنات مع التوجُّهات العالمية وموقع السلطنة في هذا الجانب، والإجراءات الثابتة التي يجب أن تحتكم إليها والانحرافات الحاصلة في الموضوع، بما يثري الحوار، ويقدم مائدة إعلامية منتجة لها حضورها وتأثيرها وبصمتها في فكر المواطن وثقافته وقناعاته وقراءته للواقع الوطني، واستشرافه لحجم التغيير الحاصل في ظل الإجراءات الجديدة وتأثيرها وتداعياتها السلبية.
على أن ما يشار من تخوف القائمين على الإعلام، من أن يؤدي التوسع في مساحة الحوار الإعلامي، وإدخال البُعد التحليلي المعمق في محطات عمله، وعبر تبنِّي سياسة الرأي والرأي الآخر يفتح ثغرات واسعة على الحكومة، ويؤدي إلى المزيد من التشويه للصورة الإعلامية المعتادة، أو يغير من مسار السياسة الإعلامية التي انتهجتها السلطنة منذ خمسة عقود، وهو تخوف ليس في محله، ومردود عليه، ويعبِّر عن هاجس الخوف من التطوير والقلق من التغيير، فإن التوسع في الحوار الإعلامي، وتبنِّي البرامج الإعلامية الأكثر عمقا وتفصيلا ورصدا للواقع لا يعني الخروج عن المألوف، ما دامت سياسات العمل واضحة، وقواعد العمل الإعلامي تأخذ في الحسبان الثوابت الإعلامية الوطنية ومبادئها وموجهاتها وأخلاقها.
إن بناء مسار إعلامي قادر على صناعة الفارق وإنتاج إعلام المرحلة، وتحقيق استحقاقات المنافسة في عالم الإعلام الواسع، والاستفادة من الفرص التنافسية للإعلام العماني في ظل توظيف المنصَّات التواصلية والتشريعات، بحيث يثبت بصمة حضور له في ظل الإعلام الرقمي والمنصَّات التواصلي، مرهون اليوم بحجم ما يعطى للمحتوى الإعلامي من أهمية، وما يمنح للتحليل الإعلامي من موقع، سوف يكون له أثره في قدرة الإعلام الوطني على الاستجابة لمتطلبات الواقع العماني، وإيجاد روح إعلامية متجددة قادر على احتواء وجهات النظر وإثبات بصمة وجود لها في جذب الاهتمام به وتوجيه الأنظار إليه. إن التحليل الإعلامي بذلك صورة متجددة لما وراء الحدث، ويستشرف السيناريوهات القادمة في العمل، والإجراءات الثابتة في تحقيق الهدف، بما يؤصله من فرص أكبر للبحث والمقارنات، والمراجعات والتصحيح وتقديم الرؤى وإنتاج الحلول، وبما يتيحه من محطات جديدة للتغير، ومسارات متنوعة في التصحيح، ويكتشفه من فرص متجددة، ويصبح التحليل الإعلامي بمثابة مساحة حرة من القراءة المعمقة التحليلية المثرية التي تضع المتابع أو المشاهد أمام سيناريوهات متجددة، وحوارات شيقة، وأحداث ومواقف متنوعة، توسع مداركه في قراءة الأحداث، وتضعه أمام محاكاة نموذجية للواقع، محطة للتأمل والمراجعة، والتفكير خارج الصندوق، وفتح آفاق أوسع لقراءة ما يجري من أحداث، ليعيد المتابع للحوار أو المشاهد له قراءتها بطرق مختلفة.
من هنا، فإن بناء سياسات إعلامية وطنية تأخذ بمبدأ العمق في التحليل الإخباري، وتقدم الدلائل والمؤشرات الواضحة لعمله، والممكنات والفرص لنُموه ليس كثقافة في الإعلام بل في المجتمع، واهتمامه بالعمق الخطابي وتركيزه على الفكر الاستراتيجي بحاجة إلى أن تتجه رؤية العمل الإعلامي الوطني إلى بناء قاعدة بيانات وطنية بالخبرات والكفاءات وأصحاب التجارب والمتحدثين في مختلف الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، بحيث تتيح التوسع في هذا البرامج إلى الاستفادة من الفرص الوطنية المتاحة، وتعزيز حضور الأسماء الوطنية والخبرات العمانية المتخصصة لتسهم بدورها في تقديم منجز التنمية، إن من شأن وجود قاعدة بيانات وطنية بذوي الاختصاص وأصحاب الخبرة وأهل التجربة، أن يضمن العمق في تناول وطرح هذه الموضوعات، ويقدم بدائل وحلولا استراتيجية من واقع التجربة وميدان الممارسة، ويستفيد من مختلف شرائح المجتمع ذات الاختصاص في المجال من المتقاعدين وأصحاب المساهمات العملية والشباب، بالإضافة إلى تعزيز طرح هذا المسار في التخصصات الإعلامية لطلبة الجامعات والكليات ذات التخصص، الأمر الذي سيقدم مشاركتهم في هذه البرامج في صقل مهاراتهم وخبراتهم وتعريضهم لمواقف محاكاة تتناغم مع طبيعة التوجُّه الوطني، بالإضافة إلى صناعة الإعلامي القادر على إنتاج القوة وصناعة التحوُّل وبناء أرصدة النجاح؛ كون الإعلامي هو القائد الذي يوجه بوصلة الحوار، ويضبط مساره، الأمر الذي سينقل الحوار إلى واقع العمل وميدان الممارسة، وما يتطلبه ذلك من توفير سياسات واستراتيجيات إعلامية تعزز من كفاءة ثقافة الإعلامي ورصانة الأدوات التي يستخدمها في حواراته، وتبني فيه قوة الحدس والفراسة والتحليل وعمق الرصد وقدرته على استدعاء المعلومات والمعارف وتوجيهها في إدارة المواقف الإعلامية.
أخيرا، تأتي أهمية إيجاد نموذج إعلامي بديل يتناغم مع متطلبات المرحلة ويتوافق مع أولوياتها، ويستجيب لمتطلبات رؤية عمان 2040، ونعتقد بأن تحقيق هذه الرؤية ـ كما أشرنا في مقالات سابقة ـ بحاجة إلى أن يرافقها مسار إعلامي يتجاوز حاجز الشكليات والرسميات والقوالب الجاهزة والأسئلة المعتادة والمجاملات الشخصية، والدبلوماسية المخلة بالطرح، إلى إحداث تغيير جذري في نمط الخطاب الإعلامي، الذي يضع المسؤول الحكومي أمام واقع إعلامي جديد، كما يضع العمل المؤسسي أمام نقد مجتمعي معزز بالشواهد والدلائل بحيث يضع اليد على الجرح، ويقف على موطن الخلل، وجوانب التطوير التي يجب أن تتجه إليها مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، وأن يرافق الطلة الإعلامية للمسؤول الحكومي حوار متكافئ حوارات ونقاشات في الطاولة الإعلامية نفسها مع الباحثين والخبراء الوطنيين، وعندها ستكون النتيجة على غير المتوقع، رصانة فكرية، وحوارا معمقا، واستجابة لمعطيات الواقع، ومهنية في الطرح، ولطافة في الحديث، وصدق في التوجُّه، وشعور بالثقة، واحتواء للفكر، ونهوض بالخبرة، وارتقاء بالتجارب، الأمر الذي سينعكس بالإيجاب على مستقبل العمل المؤسسي، وسيوجه بوصلة الأداء الحكومي نحو تحقيق الأهداف الوطنية، كما ستتجلى في هذه الحوارات روح الإعلام الحيادية والتوازنات التي صنعها على مدى خمسة عقود مضت، وتبرز شخصية المواطن العماني ونهج الحكمة والهدوء التي ستحوي المكان، وستصبح شاهدة على أخلاقيات الإنسان العماني وصفعة توجه لكل الأفكار السلبية والعراقيل التي يضعها البعض في سبيل تهميش دور الإعلام الوطني وحصره في الوصف والسرد دون العمق والتحليل وقراءة ما بين السطور. إن ذلك ـ بلا شك ـ يتطلب إعادة هندسة المسار الإعلامي داخليا ورسم استحقاقات المرحلة كمدخل استراتيجي في تغيير الخطة الإعلامية، كما سيتطلب التفكير في إيجاد منصَّات إعلامية أكثر وأوسع، وبيئة إعلامية حاضنة للإعلام المحاور، وإعلامي متمكن مثقف، وتشريعات تحفظ حق الجميع من أن تناله أصابع الاتهامات، أو يفسر حديثة بتأويلات أخرى أو يقارب كلامه بأفكار خارجة عن القصد وتتجاوز هاجس الإساءة.