د جمال عبد العزيز أحمد:
للتوجيه النحويِّ، والنظر الإعرابي والصرفي للنصوص دخلٌ كبيرٌ في تثبيت اعتقاد المسلم الصحيح، والعكس كذلك واردٌ، فإنّ الاعتقادَ الصحيح للمرء، وفهمَهُ لأحكام دينه، وأبجديات اعتقاده السليم يجعله يختار توجيهًا نحويًا على توجيه، وتوجيهًا صرفيًا على توجيه، ولا يقبل منا توجيهٌ يخالف معلومًا من الدين بالضرورة، أو يناقض أساسًا من أساسات الدين، وإنما يحجزه فهمُه السليمُ، وإدراكُه الصحيحُ من الانزلاق وراء توجيهٍ مُكّفِّر، أو تخريج مؤثِّم، أو إعرابٌ فيه غبش في التصور، وعدم صحة في الاعتقاد، سواء أكان ذلك خاصا بالنظر النحوي، أم النظر الصرفي، وسأضرب نماذج للنحو، وأخرى للصرف لنعرف كيف تدخَّلت العقيدةُ الصحيحةُ في كلِّ تصرف للمسلم، وكيف تناغم هو الآخر مع متطلباتها، وكان وقَّافا عند حدود الله، ومتطلبات الاعتقاد الصحيح فيها، ومن ذلك في باب التوجيه النحوي إعراب بعضهم لكلمة (رحيم) في قوله تعالى:(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة ـ 173)، أو في أيِّ تذييل قرآني وردت فيه ـ أنهصفة (لغفور)، وهذا فيه اضطراب من الناحية العقدية،وهي أن صفات الله كاملة، لا منقوصة، ولا تحتاج إلى صفة تكملها، فصفات الله تامة، شاملة، جامعة، مانعة، فالرحمة صفة مستقلة بنفسها، وكاملة لله، والغفران صفة مستقلة بنفسها، وكاملة لله، وكَوْنُ الكلمة تعرب صفةً للموصوف قبلها، أي أنها تكمل نقصًا فيه، فالصفة في أبسط تعريفاتها ما يكمل نقصا في الموصوف المتقدم، مثلًا:(هذا رجل فقيهٌ نحويٌّ)، فكلمة (فقيه) تكمل نقصا في الموصوف(وهو الرجل)، لو لم تجئْ لما عرفنا أنه فقيهٌ، ولا نحوي، ونحو:(هذا عالم مصري اقتصادي)، فكلمة (مصري) وصفتْه، وأكملت نقصا فيه، وكذا كلمة(اقتصادي)، لكن الله تعالى كاملٌ في أسمائه، وكاملٌ في صفاته، والأَوْلَى في مثل ذلك أن نعلِّم الدارسين أن كلمة:(رحيم) خبر ثان للحرف الناسخ (إنَّ) في الآية الكريمة السابقة، وليست صفة للخبر الأول:(إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ)، وكذا في نحو:(إنَّ ربك عليم حكيم)، ونحو:(إنَّ الله تواب رحيم)، وفي نحو:(وكان الله قويًا عزيزًا) فكلمة:(قويًا) خبر أول للفعل الناسخ(كان) وكلمة:(عزيزًا) خبر ثان للفعل الناسخ(كان)، وهكذا كلُّ ما كان على شاكلة ذلك، لا يقال في توجيهه النحوي:(صفة) لأنالصفة ـكما سبق ـ تكمل نقصًافي الموصوف، وتتمم معناه، وهو مفتقر إليها في أصل الإفادة، ولكن صفات الله تختلفُ عن صفات المخلوقين؛ لأن المخلوقين فيهم نقصٌ، يتكامل بالوصف المتعدد، فكل صفة تكمل شيئًا أو نقصًا في الموصوف، ولكن صفات الله كاملة كمالًا إلهيًّا ربانيًّا لا نقص فيه، ومن هنا يُشرَع للمعلم أو للأستاذ أن يبصِّر طلابَه بالإعراب الصواب، والتوجيه الدقيق، وألا يقول: إن الطالب لا يُدرِك تلك الأعاريبَ المتشعبة، والمتعددة، ولكنْ عليه أن يوضِّح القضية لطلابه، وهي افتراق صفات الله تعالىعن صفات البشر، وأنه لا يجوز توجيهٌ إعرابي كهذا فيما يتعلق بالذات الإلهية الكريمة، ولك أن تُعِيد التوقف أمام آيات كتلك الآيات الكريمات:(والله واسع عليم)، (إنَّ الله عزيز ذو انتقام)،(إنَّ الله قوي عزيز).
ولعل جميعنا يذكر أن أساتذتَنا كانوا عندما يدرسون لنا قوله تعالى:(وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد)، كانوا يدرسونه تحت باب (تعدد الخبر)، وليس تحت باب (تعدد الصفة)، ومثله قولهتعالى:(هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر)، كلُّها دُرِّسَتْ، وتُدَرَّسُ عند جميع الأساتذة، وفي كلِّ كتب النحو تحت جزئية (تعدد الخبر) في باب المبتدأ والخبر، أو في باب الجملة الاسمية، وهو أمرٌ حسنٌ: أن نتعلم هذا المعنى العقدي الكبير وتأثيره في دنيا الإعراب، ونفْقه تلك الأعاريب التي تثبِّت الاعتقاد الصحيح في صفات الله بصورة دقيقة، وبأسلوب سليم، وكما تعلمْنا صواب الإعراب نعلِّم غيرَنا، ولا نكتم العلم النافعَ عن الناس.
فلولا معرفتُنا بكمال صفات الله لما تنبهْنا لتلك الأعاريب غير الدقيقة، والتي لا تربِّي نشئًا على الاعتقاد السليم، ولَمَضَيْنَا مع الماضين نعرب إعرابًا لا يليق بذات الله العليِّ العظيم.
هذا مثال في النحو، ولو أخذنا مثالا في الصرف لوجدنا الكثير، والكثير، منها ـ على سبيل المثال ـتوجيههم لكلمة (عالم) في قوله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الانعام ـ 73)، أو في أيِّ موضع تأتي فيه في كل القرآن الكريم، حيث يوجِّه بعض الأساتذة كلمة: (عالم) على أنها اسم فاعل، جريًا على ظاهر اللفظ من كونه حقًّا على زن (فاعل)، لكنْ مع التريث نجد أن اسم الفاعل يعني الصفة، وصاحبها أو من قام بها على سبيل التغير، والحدوث، فمثلًا:(فلان ضاحك) سيتغير حاله ووضعه من الضحك إلى شيء آخر، وإلا لَمَاتَ، فقد يكون ساكتًا، أو متكلمًا، أو ماشيًا، أو أي وصف، ووضع آخر، فاسم الفاعل يصاغ من الفعل على سبيل التغير، والحدوث، والتبدل، والتحول، لا على سبيل الاستمرار والبقاء، ولو طبَّقنا ذلك على الآية الكريمة لقلنا:(إن الله عالم الغيب والشهادة في وقت، ويزول عنه هذا الوصف في وقت آخر)، وهو اعتقاد آثم، لا يجوز على الله، فعِلْمُ الله الغيبَ والشهادةَيكون على سبيل الاستمرار، والثبوت التام، الأزلي، السرمدي، الأبدي، وأنه لا يجوز أن نَصِفَ اللهَ بالصفة في وقت، ثم ننزعها عنه في وقت آخر؛ جريا على أن اسم الفاعل يصاغ للدلالة على التغير والانتقال، والتبدل والحدوثمن صفة إلى صفة أخرى، هذا يكون في حقَّ البشر، نعم، هذا صحيح، أما في حق الله عز وجل فتتحول صيغة اسم الفاعل بالمعنى الاعتقادي، وبفهْمنا لطبيعة الصفات الإلهية إلى صفة مشبهة، وليس اسم فاعل، فالصفة المشبهة تصاغ من الفعل لتدل على ثبوت الصفة لصاحبها أزلا، وعدم انتقالها عنه إلا بموت (لو كان بشرا بالطبع)، كما نقول مثلًا:(فلان طويل، أو قصير، أو حسن الوجه، أو أسمر الجلد، أو مستقيم الجسم، أو معتدل القوام، أو معوجّ القدمين، أو نحيف الجسم، أو بدين الجسم، من كل تلك الصفات الجِبِلِّيَّة الثابتة التي لا تتغير في العادة، بصرف النظر عن المرض، أو الوفاة أو الشيء الخارج عن استطاعة الإنسان، وقدرته، فإذا مات الموصوف من البشر انتهت أوصافه تلك، كالطول، والجمال، أو القصر،أوالدمامة، أو إذا مرض مرضا لا برء منه، يغيِّر شكله، جَرَّاءَ الأدوية التي يتعاطاها ليشفى، فتؤثر في شكله، وجسمه، ووجهه، وشَعْرِه، نحنُ نتكلم عنصفات الإنسان العادي البارئ، فهو في صفاته الجِبِلِّيِّة والخَلْقِية لا يتغير، فهي في الاعتبار الصرفي صفاتٌ مشبهة، فقولنا للطلاب عن الله سبحانه في نحو:(عالم الغيب): إنها اسم فاعل هذا ليس صوابا، وهو تعليمٌ غيرُ صحيح؛ ويلزم تصحيحُه للطلاب، وتعليمُهم أن صفاتِ الله لا تتغير، ولا تتبدل كصفاتنا نحن البشر، وإنما هي لازمة لهـ سبحانه، باقيةٌ بكمالِها، وشمولِها كما يَعْلَمُها ربنا ـ جلَّ جلاله ـويرضاها، وكما هي في كتب العقيدة تُشْرَحُلنا بصورة دقيقة، وصحيحة، فكلُّ ما كان على وزن فاعل من صفات الله، مثل:(قادر، مُعِين، مقتدر، عالم الغيب، قابل التوب، غافر الذنب، محيط بكل شيء، مُبْدئ، مُعِيد،مخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي .. إلى آخر تلك الصفات) إنما هي صفات مشبهة عند احتسابها صرفيًّا، وليست أسماء فاعلين، وإذا أجاب الطالب الذي ربَّاه أبوه إجابةً على أنها صفة مشبهة،فلا يخطِّئه المعلمُ، أو يحرمه من درجته كاملة، وإنما يشكره على ذلك الفهم الراقي للصيغ الصرفية المتعلقة بذات الله، ويدعو له، ولوالديه: أنْ علماه تلك القيم الصحيحة، والصفات الربانية السليمة، وعلى مَنْ يؤلِّف كتبَ التعليم أن يلحظ ذلك؛ حتى لا يُجِيبَ الطالبُ إجابة لا تتلاءم مع إعراب المؤلف فيحتسبها خطأ له؛ وحتى لا يظلم الطالبُ الملتزمُ الذي علَّمه أهلُ العلم المسجدُ، وعلَّمه أبواه التصورَ العقديَّ الصحيحَ لصفات الها، وليس من حقِّ أيِّ أستاذ أن يخطِّئ الطالبَ في إجابته تلك؛ لأنها الإجابة السليمة، والصحيحة، وهذا من المفترض أن يكون، وعليه أن يُعَرِّفَ الأولاد الآخرين صوابَ الصيغة، والفارق بين صفاتنا، وصفات ربنا في مثل تلك الكلمات، لارتباطها بمنظومة عقدية كبيرة نتعلمها دائمًا في المدارس والمؤسسات التعليمية في بداية حياتنا الدينية والعلمية، لتمضي معنا في كلِّ مراحل حياتنا، ونقدس ربَّنا في أسمائه، وصفاته، ونقف عند حدود الله في التأدب مع الله، ولو في التخريج الإعرابي، أو التوجيه النحوي، والتحليل الصرفي للنصوص، بإذن الله، وفقنا الله وإياكم إلى سلامة الإعراب النحوي،والتحليل الصرفي، ودقة التوجيه في للنصوص التي تتعلق بذات الله الكريم، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وصلى الها، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

*كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.
[email protected]