مدينة ذات تأثير حضاري كبير على مر القرون

نزوى (العمانية):
تنطلق بعد أيام الفعاليات الثقافية في إطار الاحتفاء بنزوى عاصمة للثقافة الاسلامية للعام 2015 في مختلف محافظات السلطنة بعد أن اختارتها المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (ايسيسكو) لتكون محط أنظار العالم العربي والإسلامي خلال هذا العام ومركز اشعاع علمي تبرز فيه نتاجها الثقافي والتاريخي والحضاري الذي يشغل مساحة كبيرة من عمر الزمان يزيد على إثني عشر قرنا.
وتم اختيار مدينة نزوى لتكون مركز هذه الاحتفائية العالمية لكونها مدينة ذات تأثير حضاري كبير على مر القرون .
وقد وصف حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ في خطابه السامي الذي ألقاه في عام 1994م مدينة نزوى بأنها "معقل القادة والعظماء وموئل العلماء والفقهاء، ومرتاد الشعراء والأدباء" وأن لها في قلوب العمانيين منزلة عالية ومكانة سامية وقدرا جليلا .
ويتبدى التأثير الحضاري لمدينة نزوى في معالمها الأثرية الشامخة وقلاعها المنيفة كقلعة نزوى المستديرة، وحصنها الأثري المجاور لها، ويعد هذان الصَّرحان من أهم آثار العمارة الحربية في نزوى بل إن القلعة والتي وصفت بـ"الشهباء" لا يوجد لها مثيل في الشرق الأوسط.
وقد شيد الحصن في عهد الإمام الصلت بن مالك الخروصي "القرن الثالث الهجري"، أما القلعة فقد شيدت في عهد الإمام سلطان بن سيف اليعربي، خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، واستغرق بناؤها 12 عاما، ويبلغ ارتفاعها 24 متراً، فيما يبلغ قطرها الخارجي 43 مترا.
وإلى جانب هذين المعلمين يوجد في مدينة نزوى كثير من الحارات القديمة ذات البوابات والأسوار والأبراج، أشهرها حارة العقر المجاورة لقلعة نزوى من جهة الجنوب، وتتحدث كثير من الكتب التاريخية: إن من هذه الحارة خرج كثير من الفقهاء والعلماء ذوي المكتبات والمؤلفات، وما تزال مساجدهم قائمة إلى اليوم.
ولأهمية هذه المعالم التاريخية والدينية فقد بذلت حكومة حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ جهدا كبيرا في ترميمها، وكانت القلعة والحصن من بين أوائل ما تم ترميمه، وهما اليوم يعدان مقصداً للزوار من مختلف أقطار العالم، خاصة في موسم الشتاء الدافئ، حيث تنشط حركة السياحة الثقافية، ويزداد الإقبال على زيارة المعالم الأثرية.
وعرفت نزوى بالمكتبات أيضا ، وخرَّجت كبار الفقهاء والأدباء، وجلهم من أصحاب المصنفات والمؤلفات متعددة الأجزاء كالشيخ أحمد بن عبدالله بن موسى الكندي (ت: 557هـ) صاحب كتاب "المصنف" الذي طبع في 41 جزءاً، وكذلك الشيخ محمد بن ابراهيم الكندي (ت: 580هـ) صاحب موسوعة "بيان الشرع"، وقد طبعت في 72 جزءاً، وكلتا الموسوعتين الفقهيتين وغيرهم من الذين برزوا كأعلام ثقافية، وتركوا مؤلفات تعد اليوم من أهم المراجع الثقافية والعلمية على مستوى العالم الإسلامي .
ولكون المكتبات القديمة تعد جزءا من ذاكرة المدينة جاءت المكتبة الملحقة بجامع السلطان قابوس بنزوى والتي يشرف عليها مركز السلطان قابوس للثقافة والعلوم لتعيد هذه الذاكرة بكل ثرائها .
كما كانت نزوى موطناً لكبار الشعراء في مختلف العصور، ومن أشهرهم الشاعر أبوبكر أحمد بن سعيد الستالي، الذي عاش في فترة حكم النباهنة خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين، والشاعر راشد بن خميس الحبسي "ت: 1150هـ"، وقد عاش في فترة حكم اليعاربة، وترك كل منهما ديواناً شعرياً كبيراً.
وتتميز مدينة نزوى بوجود العديد من المساجد ذات المحاريب المزخرفة التي يعود أقدمها إلى ثمانية قرون، حيث اكتمل تنقيش زخرفة محراب جامع "سعال" في ربيع الثاني من عام 650هـ/ يونيو 1252م، وما تزال زخرفة المحراب باقية إلى اليوم ، وفي عهد النهضة المباركة التي يقودها حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ تم ترميم جامع سعال، وبقيت التحفة الزخرفية في المحراب محافظة على جمالها الحروفي وخطها الكوفي الأنيق، والتي تؤكد إبداع النقاشين العمانيين في القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي، وهناك مساجد أخرى تحتوي على محاريب مزخرفة بنقوش جصية، تم تنقيشها في فترة لاحقة، مثل مسجد "الشواذنة" في حارة العقر، الذي يعد من أقدم المساجد بناء، أما زخرفته فتعود إلى
عام 936هـ، فيما تعود زخرفة محراب مسجد "الجناة" داخل حارة سعال إلى سنة 924هـ . وبلا شك فإن نزوى كانت حافلة بعشرات المساجد الأثرية، ذات المحاريب المزخرفة بالحروفيات، لكنها اندثرت وما بقي منها يؤكد على رواج حركة التنقيش على محاريب المساجد.
ومن يزور نزوى المدينة اليوم تلوح له الجنائن والخمائل، في مساحات من الجمال الأخضر، تغطيها أصناف كثيرة من النخيل والحمضيات وقصب السكر وأنواع مختلف من البقوليات، ترويها أفلاج خصيبة أشهرها فلجا "دارس" و"الخطمين" بنيابة بركة الموز التابعة لنزوى وتم إدراج الفلجين ضمن لائحة التراث الإنساني، حيث أقرتهما لجنة التراث العالمي في يوليو عام 2006م .مع ثلاثة أفلاج عمانية أخرى، وهي فلج "الملكي" في ولاية إزكي بمحافظة الداخلية، وفلج "الميسر" في ولاية الرستاق بمحافظة جنوب الباطنة، وفلج "الجيلة" في ولاية صور بمحافظة جنوب الشرقية، تعبيرا عن المكانة الدولية لهذا النظام المائي الفريد من نوعه، الذي يشكل موروثاً حضارياً أبدعه العمانيون منذ ما يزيد على ألفي عام، كأقدم هندسة ري في
عمان.
وبمناسبة احتفائية نزوى عاصمة للثقافة الإسلامية تقوم وزارة التراث والثقافة حاليا بتشييد مركز ثقافي في منطقة حي التراث، يتكون من مسرح ومكتبة عامة، ومكتبة للأطفال وناد علمي ومسرح خارجي وحلقة للأعمال الفنية، وناد للموسيقى، وقاعة متعددة الأغراض، ومخزن للآثار وغيرها من المرافق الخدمية الأخرى داخل المركز، في مساحة تقترب من عشرة آلاف متر مربع، والمركز حاليا قيد البناء، وبدأت معالمه الخارجية تتضح، ومن المتوقع ان ينتهي العمل منه مع منتصف هذا العام.
كما تم تصميم شعار خاص بمناسبة نزوى عاصمة للثقافة الإسلامية، يتشكل فيه معلمان من معالم التاريخ المعماري، وهما قبة جامع السلطان قابوس وقلعة نزوى، مع إضافة كلمة نزوى في شكل القبة، وجملة عاصمة الثقافة الإسلامية بخط الثلث، واعتمد في الشعار اللون الذهبي المتدرج.
وعند مدخل مدينة نزوى تنتصب بوابة نزوى الأثرية وتعكس في مكوناتها العمارة الأثرية، حيث تبدو أشبه بقوس مكلل ببرجين عاليين من طرفيه، وفي داخل البوابة ثمة مساحة يمكن أن تستخدم لتقديم معارض وتحف، لتبدو أشبه بالمتحف المعلق فوق الشارع.
ويشار الى أن احتفائية نزوى عاصمة للثقافة الإسلامية لهذا العام تأتي على مستوى دول الوطن العربي وتتشارك معها مدينة "ألماتي" بكازاخستان على مستوى الدول الاسيوية، ومدينة "كوتونو" على مستوى الدول الأفريقية.
الجدير بالذكر أن البرنامج الذي تبنته منظمة "إيسيسكو" يهدف إلى تقديم الصورة الحقيقية للحضارة الإسلامية ذات المنزع الإنساني إلى العالم أجمع، ونشر الثقافة الإسلامية، وتجديد مضامينها، وإنعاش رسالتها، وتخليد الأمجاد الثقافية والحضارية للمدن المختارة، وتعزيز الحوار بين الثقافات والحضارات وإشاعة قيم التعايش والتفاهم بين الشعوب في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها عالمنا اليوم.