د. أحمد مصطفى أحمد:
قديمة جدا الحكمة التي تقول "الفن مرآة الشعوب"، وقديما أيضا كان المسرح هو "أبو الفنون" منذ أيام الإغريق وربما قبل ذلك. لكن تظل المقولة قوية الدلالة وممتدة الصلاحية حتى في عصرنا الحالي، وربما أبعد. برزت تلك المقولة بقوة مع متابعة الجدل الدائر في مصر حول ما تسمى ظاهرة "أغاني المهرجانات" وانقسام الناس إلى معسكرين: أحدهما مع منع مطربي المهرجانات للحفاظ على الذوق العام والحد الأدنى من المستوى الفني، والآخر يرى أن يترك الحكم للجمهور ليسمع ما يريد وفي النهاية سيبقى الفن الجيد ويندثر الهابط. والحقيقة أن هذه الظاهرة ليست قاصرة على مصر، ولا حتى على منطقتنا. هي ظاهرة في العالم كله تقريبا منذ نهاية القرن الماضي. ويمكن أن يندرج تحتها بعض مما تسمى أغاني "الراب" وما يشبهها من كلمات لا موسيقى شعرية فيها وألحان عبارة عن نغمة واحدة تتكرر أو مجرد "دربكة".
بل يمكن القول إن هذا النوع من الغناء ليس بجديد تماما، وإنه يتكرر ظهور مثله في أوقات التراجع لدى الشعوب المختلفة. ولنظل مع مصر على سبيل المثال، ففي وقت الحرب العالمية مطلع القرن الماضي سادت في مصر موجة من الأغاني التي لا يمكن وصفها إلا بأنها "هابطة". وراجت تلك الأغاني واشتهر مغنوها بين الجماهير التي لم تكن تريد سوى هذا النوع من الفن وقتها. لكن بالتوازي مع تلك الموجة كانت هناك الألحان القوية التي لا تخلو من طرب والغناء الذي لا يكتفي بالطرب، وإنما بالتماس مع مشاكل الناس والعالم. لذا، أتصور أن المشكلة مع ما يسمى أغاني المهرجانات وأمثالها في دول العالم الأخرى حاليا هو أنه لا يوجد بديل قوي يجذب أسماع الجماهير. ورغم الاستياء من تلك الكلمات البذيئة والموسيقى المؤذية، إلا أن المنع لم يكن أبدا حلا. فكما يقول المثل "الممنوع مرغوب".
كان الراحل الشيخ إمام عيسى يلحن ويغني أشعار أحمد فؤاد نجم، وكانت أهمية تلك الأغاني في كلماتها أكثر من ألحانها. ولأنها كانت ممنوعة، انتشرت بواسطة "أشرطة الكاسيت" التي تتداول سرا ليس في مصر فحسب، بل في أنحاء العالم العربي. طبعا ليس المقصود هنا المقارنة مع ما يجري الحديث عنه حاليا مما يسمى غناء وهو مجرد "رص كلام" أغلبه خارج عن حدود الأدب والذوق العام (وتجد ذلك في كثير من أمثاله بلغات أخرى في العالم) على نغم يسمى موسيقى. إنما القصد أن المنع ربما يأتي بنتائج عكسية تزيد من الانتشار، ولو من باب حب الاستطلاع، وهكذا يحدث عكس ما يستهدفه من يمنع وهو انتشار الذوق الهابط. الحل ـ في تصوري ـ يبدأ من عند أهل الفن أنفسهم، الذين انبروا لمناصرة هذا العسكر أو ذاك ممن يريدون المنع ومن ينتقدونهم. الأولى، هو الانصراف إلى الإبداع الأصيل ومحاولة تقديم فن راقٍ ـ حسب تقدير من يرون غناء المهرجانات هابطا ـ وفي الوقت نفسه مستساغ من الجمهور.
إذا كانت أشرطة الكاسيت المغناطيسية ساعدت في القرن الماضي على انتشار ما هو ممنوع، فالأجيال الجديدة لديها منافذ هائلة لترويج أي شيء وكل شيء. فالتكنولوجيا أمدتهم بوسائل نشر وبث غير مسبوقة، ومواقع التواصل على الإنترنت تتيح ما لم يكن يحلم به أحد من سبل الانتشار. ربما من الخطأ أن نلوم وسائل النقل والترويج والانتشار؛ باعتبارها سببا في انتشار الفن الهابط. فتلك الوسائل متاحة أيضا للفن غير الهابط بتلك المعايير، والناس قادرة على الوصول إلى كل ذلك. ربما كان ذلك مقبولا حين كان البث قاصرا على الإذاعات والقنوات التلفزيونية، فاختياراتها كانت تشكل المزاج العام للجمهور. لكن حتى في ذلك الوقت لم يمنع ذلك من انتشار مغنين كانوا يبيعون ألبوماتهم ولا تذاع بكثافة في وسائل البث التقليدية، وكان الناس يقبلون عليها ويشترونها.
هناك نقطة أخرى في غاية الأهمية، وهي أن كل هذا الجدل يتعلق فقط بنصف الموضوع، أي "المرآة"، ويتجاهل تماما النصف الآخر، أي "الشعوب". ليس الأمر أن المرآة تشوهت، أو تشققت، فعكست صورة مشوهة للشعوب التي تعبِّر عنها وتمثلها. بل إن الشعوب أيضا تتغير أذواقها، التي تعكسها مرآة فنها، وتلعب عوامل كثيرة دورا مؤثرا في شكل الفنون التي تنتجها وتستهلكها. وطبعا هذا جانب لا يريد أحد التطرق إليه، فقدر كبير من مشكلة الفن وليس الغناء فقط هو أن الأجيال الجديدة لم تعد تستسيغ ما شبت عليه أجيالنا والأجيال التي قبلنا. وإذا كان من سنة تطور البشر أن الأجيال الجديدة غالبا ما تتمرد على القديم، وتبتكر أشكالا جديدة تخصها، في الفن وغيره فإن محدودية وسائل التواصل والانتشار في السابق كانت تجعل تأثير ذلك محدودا ويأخذ وقتا طويلا، ربما جيل أو جيلين. أما الآن، وبفضل تطورات التكنولوجيا، أصبحت المسافة الزمنية للتغيير أقصر كثيرا. ذلك هو التحدي الأكبر أمام الفن عموما، والغناء في هذه الحالة، ليتطور ويحافظ على رقيه ورفعته في الوقت الذي يتكيف فيه مع جديد العصر وتغير مزاج الجمهور. ليس بمعنى أن يسايره هبوطا، وإنما يجذبه ارتفاعا. إنما ذلك يحتاج إلى إبداع الشعوب مهما كانت مشكلة المرآة.