أقامت السَّلطنة نَهْضتها المُباركة على أُسسٍ راسخة لا تتزحزح عنْها قَيْدَ أُنملة، وكانت سعادة الإنسان ورفاهيَّته بوصلتها دائمًا، بل كانت حمايَة الإنسان وحقوقه أحد الثوابت وأساسًا لسياستها. وعلى مدار العقود الخمسة الأخيرة احتوت أجناسًا من ربوع الأرض كافَّة، ولم يفرِّق القانون لدَيْها بَيْنَ مواطن ووافد، وحرص دائمًا على إغاثة الملهوف ونُصرة المظلوم أيًّا كان عِرْقه أو لَوْنه أو عقيدته، ولا يوجد أبلغ دليل من شهادة النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم في حقِّ أهْل عُمان، عن أبي برزة الأسلمي ـ رضِيَ الله عنه ـ قال: بعثَ رسولُ الله رسولًا إلى حيٍّ من أحياء العَرب في شيء، لا أدري ما هو، فسبُّوه وضربوه، فرجع إلى النَّبي فقال: "أما إنَّك لو أهْل عُمان أتَيْت ما سبُّوك ولا ضربوك"، وهي شهادة مِنْ مَنْ لا ينطق عن الهَوَى تؤكِّد رسوخ عقيدة حمايَة الآخر وصَوْن حقوقه في السَّلطنة، فعُمان كانت ولا تزال واحة ينعم فيها الإنسان بكرامته الإنسانيَّة وحقوقه المعنويَّة قَبْل الماديَّة.
وفي هذا الإطار، أكَّدت السَّلطنة في الاجتماع الدولي رفيع المستوى المنعقد بمقرِّ هيئة الأُمم المُتَّحدة بنيويورك حَوْلَ مكافحة الاتجار بالبَشر أنَّ هذه الظَّاهرة لا تتوافَق مع مبادئها وقِيَمها السَّامية، وأنَّها عازمة على القضاء على هذه الظَّاهرة بشتَّى الوسائل القانونيَّة. فالسَّلطنة تُولي اهتمامًا خاصًّا بمكافحة ظاهرة الاتجار بالأشخاص، والتي لا تتوافق مع مبادئنا وقِيَمنا السَّامية، حيث قامت بإنشاء لجنة وطنيَّة لمكافحة الاتجار بالبَشر، والتي عكفت منذُ تأسيسها عام ٢٠٠٨م على تنفيذ العديد من البرامج وحلقات العمل والنَّدوات والمُؤتمرات للتَّوعيَة بهذه الظَّاهرة ومخاطرها، واقتراح القوانين لمكافحتها والقضاء عليها، وذلك بإرادة ثابتة تنطلق من قِيَم راسخة حرصت طوال تاريخها التَّليد على الذَّود عنها، وعدم المَساس بها.
وبالرغم من التحدِّيات التي يواجهها العالَم، والمُتمثلة في جائحة كورونا "كوفيد19" وتداعياتها، إلَّا أنَّ ذلك لم يثنِ حكومة السَّلطنة عن مواصلة جهودها لمكافحة ظاهرة الاتجار بالأشخاص، ويتجلَّى ذلك في الخطَّة الوطنيَّة لمكافحة الاتجار بالبَشر للفترة من ۲۰۲۱- ۲۰۲۳م، والتي تضمَّنت العديد من المحاور والمُرتكزات، والتي من أبرزها تدريب العاملين في الصُّفوف الأماميَّة، وتعزيز الوعْي المجتمعي، بالإضافة إلى المُبادرات النَّاجحة التي أطلقتها في هذا الصَّعيد بالتَّعاون مع القطاع الخاص وجمعيَّات المُجتمع المَدني، مثل مُبادرة "إنسان" التي ركَّزت على توعيَة العاملين في مؤسَّسات القطاع الخاص، وكان لها الفضل في توعيَة وتثقيف قطاع واسع من العمَّال وأرباب العمل بالظَّاهرة ومخاطرها وطرق الإبلاغ عنها؛ حفاظًا على سلامة المُجتمع ورعايَةً لحقوق الإنسان.
ولعلَّ أبرز ما يثمِّن الجهود العمانيَّة المُخلِصة في مجال الاتجار بالبَشر أنَّها لم تكتفِ بمحاربة الظَّاهرة على الصَّعيد الدَّاخلي فقط، وإنَّما تحاربها في الخارج والدَّاخل معًا؛ لأنها لا تتَّسق مع قِيَمها الإنسانيَّة. فقد انضمَّت السَّلطنة للعديد من المُعاهدات والاتفاقيَّات الدولية والإقليميَّة المعنيَّة بمكافحة الاتجار بالأشخاص، والتي من بَيْنها اتفاقيَّة الأُمم المُتَّحدة لمكافحة الجريمة المُنظَّمة، والبروتوكول المُكمِّل المَعْنيِّ بمنْع وقمْع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، خصوصًا النِّساء والأطفال، واتفاقيَّة مناهضة التَّعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسيَة أو غير الإنسانيَّة أو المُهِينة، والعَهْد الدولي للحقوق الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، والبروتوكول العَربي لمكافحة الاتجار بالبَشر والقَرْصنة البحريَّة.
إنَّ كلمة السَّلطنة في هذا الاجتماع العامِّ تستعرض لا تدافع عن نَفْسِها، تستعرض نموذجًا مُضيئًا، سينفع العالَم إذا ما أراد الاستفادة من التَّجربة العُمانيَّة، التي حرصت دائمًا على صَوْن وحمايَة الإنسان ماديًّا ومعنويًّا، ورأتْ في الاجتماع فُرصة لِحَضِّ دول العالَم على المُضي قُدمًا في هذه السِّياسة المُلهِمة، كما أنَّها جدَّدت التزامها بخطَّة الأُمم المُتَّحدة للقضاء على الاتجار بالأشخاص وعزمها على القضاء على هذه الظَّاهرة بالسُّبُل والوسائل القانونيَّة كافَّةً لبلوغ مُجتمع خالٍ من الاتجار بالبَشر.