إبراهيم بدوي:
صعقت بابني البالغ من العمر 8 سنوات وهو يشاهد على موقع عالمي شهير ببث المقاطع المرئية، شاب وهو يحطم سيارة أخيه ويتحدث عن (مقلب)، ليأخذ المقطع منحى عبثيا ملتحفا بـ"إفيهات" سمجة. الغريب أن هذا الطفل الذي لم يكن وعيه بعد يستمتع بما يشاهده من محتوى، ويحزن عند إغلاقي هذا المقطع ويبدي امتعاضه، وهو مشهد عبثي جديد بل أكثر عبثية من المحتوى الموجود في المقطع، فقد لاحقتني الأفكار المتتالية، وتذكرت نقاشات معمقة مع زملاء أفاضل حول مستقبل مهنة الصحافة والإعلام، خصوصا الإعلام المقروء، وكنت دوما معارضا للخلط بين الفضاء الإلكتروني وما يحمله من فكر منفلت، وبين مهنة الكتابة الصحفية وضرورات التطور التي فرضتها عليها معطيات وتقنيات اليوم، فقد كنت أؤمن أن الصحافة الورقية تحتضر، لكنني لطالما حذرت من التخلي عنها، دون تطويرها لتجابه المستقبل بأدواته.
وهنا لا أتحدث عن ممتهني مهنة الصحافة وضرورة الحفاظ على مصادر رزقهم كأقل تقدير، لكن أتحدث لأقارن بين مهنة عرف عنها الانضباط بالقِيَم والأعراف الاجتماعية، قبل الالتزام بمبادئ المهنة وثوابتها العريقة، وبين مسخ جديد يطفح في الفضاء الإلكتروني تحت مسمى صناعة المحتوى، ليس له أسس قيمية ينطلق منها. صحيح، جميل أن يتدرب الصحفيون على مهارات تقنية جديدة تكون خير معين لهم في إيصال أفكارهم الصحفية، وأن يلموا بكيفية التطوير التقني بما يساعدهم على نقل رسائلهم الإعلامية، لكن تبقى القدرة الإبداعية على الكتابة المنضبطة هي الأساس الذي يبنى عليه ونتطور من خلاله.
إن ما يحدث الآن أشبه بما يقدمه الساحر من حيل وخدع بصرية مبهرة، لكنها تدفع متابعيها دوما نحو الإيمان بالخرافات، وبين عالم ومخترع يقدم للعالم اختراعه بشكل علمي سلس بالتأكيد سيكون أقل إبهارا، لكنه سيقدم خدمة بالتأكيد للبشرية، صراع يحاول أن يأخذ بناصية التطور الحتمي لمهنة الصحافة، ويضعها في طريق يخرجها عن مضمونها الساعي لنشر الفكر والوعي بين الجمهور. وللأسف فالدول على الصعيد السياسي تسهم بقدر كبير في انهيار المنظومة الصحفية؛ لأنها تتجاهل أن صناعة منظومة إعلامية محترفة وملتزمة يحتاج تكاليف كبيرة بدءا من نشر الكوادر البشرية لاقتناص المعلومة الصادقة، وما تنفقه للحصول على تقنيات تتيح سرعة النشر، لمواكبة التطور التقني الكبير، وهو ما تعجز عنه الموارد المتاحة من إعلانات الشبكة العنكبوتية، فالإعلام الواعي يصنع مجتمعا أكثر وعيا، ولصناعة هذا الوعي تحتاج المؤسسات الصحفية لمساندة كبيرة حتى يتحقق المراد منها، إنها أشبه بمرور مؤسسة اقتصادية بأزمة، وبدل من أن تكثف من الإنفاق الإعلاني للترويج لسلعها، نجدها ترشد الإنفاق في بند الدعاية ليكون الانهيار هو النتيجة الحتمية.
إن دعم الصحافة والصحفيين تقنيا وماديا، ومراقبة المحتوى المقدم على الفضاء الإلكتروني، ومعاقبة أصحاب المحتوى الذي يسهم في تدمير المجتمع، خطوات ضرورية لحماية الجيل الناشئ، ووقف هذا الانهيار الأخلاقي الذي نشاهده والذين يأخذنا لمستقبل بائس، يطرح قدوات ونماذج اجتماعية لأبنائنا منحلة الوعي والفكر والتصرفات، نماذج تمتلك معاول الهدم بجهل مدار ممن يسعون لخراب أوطاننا، وإيجاد مسوخ مشوهة نفسيا في أجيالنا الحديثة يحملون الخراب للمجتمع ككل، لذا ولكي نحصن أنفسنا من تلك الهجمة التتارية الحديثة، علينا، حكومات وشعوبا وصحفيين، أن نتوجه لتطوير آمن لمنظومتنا الإعلامية والصحفية، وعدم الاكتفاء بالحديث عن احتضار الصحافة الورقية، فالورق كان وسيلة عصره، والآن هناك وسائل للعصر الحالي، علينا التعاطي معها بإيجابية، والعمل على التطوير الذاتي، سواء للصحفي أو للصحيفة.
فالكلمة المنضبطة الملتزمة بالقِيَم الإنسانية كانت هي الحصن طوال فترات التاريخ الحديث والقديم أمام الأفكار المنحرفة، والكلمة ستبقى هي الأداة مهما اختلفت وسائل الاتصال الجماهيري ومهما تطورت، فهي الأساس الذي يحمل وعاء الأفكار للجمهور ليفندها وينقضها، خالقة حالة منا لوعي المطلوب، خصوصا في زمن تحاك به المؤامرات ضد الدول، ويصنع أحصنة طروادة للغزو الفكري الذي ينشده كل متربص، ففن الكتابة الصحفية سيظل هو أصل المحتوى مهما تطورت التقنيات والأساليب التي تقدمه، وبدونه ينهار الدور التنموي الذي يلعبه الإعلام وتلعبه الصحافة في بناء الشعوب.