سعود بن علي الحارثي:
في الماضي القريب، وفي العقود الأولى من انطلاقة نهضة عُمان المعاصرة، كان المصدر الوحيد الذي يتلقى منه المجتمع الأخبار والتطورات ذات العلاقة بالإنجازات والخطط والسياسات والمشاريع الحكومية، والجهود والمبادرات والأعمال التي تنفذها وتقوم بها الوزارات والهيئات والمؤسسات، هما التلفاز والراديو الرسميين التابعين لوزارة الإعلام، وكذلك الصحف التي تعتمد أخبارها على المصدر الرسمي، فلا تنقص ولا تزيد عما يبثه الإعلام الحكومي، وسواء صدق المتلقي أو شكك فيما يسمعه، إلا أن ما سكن في نفسه يظل أسير نفسه، وإن أعلن عنه وعبر، ففي دائرة ضيقة من صحبه ومعارفه، وفي حدود السبلة الخاصة والمكتب، أما اليوم فقد أصبح معظم، إن لم يكن كل مواطن يمتلك حسابه الشخصي وقناته الخاصة في اليوتيوب والتويتر والانستجرام والفيس بوك، وعضوا في عشرات مجموعات الواتساب التي تضم الواحدة أحيانا مئات الأعضاء، وفي غرفته شبكة واسعة من قنوات التلفزة العالمية، وعبر نافذة هاتفه وشاشة حاسبه الآلي يطل على العالم... والكل يدلي بدلوه ويعبِّر عن رأيه ويقول ما في نفسه، يشكك ويكذب، يصدق ويمدح ويشيد، وينشر الحقائق، وكذلك الإشاعات والأكاذيب عن تعمد لغايات ومقاصد، أو جهل وغفلة، ويعرض لوجهة نظره ويوجه نقده اللاذع، يوافق بعض الأخبار ويكذب أخرى مما تبثه وسائل الإعلام الرسمي، بتجرد ومصداقية ونقل للواقع أو العكس، فالباحث عن عمل يشكك في البيانات المتفائلة والأرقام المنجزة حول التوظيف، والمتضرر من إعصار شاهين يقدم واقعا مغايرا عما تعرضه تقارير الإعلام الرسمي حول حجم الجهود والمساعدات المالية والعينية الحكومية التي قدمت، والمستهلك غير راضٍ عن إعلان وزارة التجارة بأن “الوقود مطابق للمعايير والمقاييس المعمول بها وفقا للمواصفات القياسية المعتمدة...”... وفي كل موضوع يتعلق بقضايا الشأن الوطني المرتبط بمصالح أفراد وفئة وشريحة ومجتمع بأكمله تحدث تجاذبات واتهامات وخلافات عميقة أحيانا، محلها ما يبثه الإعلام الرسمي من برامج وأخبار تتعلق بإنجازات الحكومة في معالجة المشكلات، ومساعدة المستحقين من المواطنين، وتجويد الخدمات، وتوفير الوظائف وتسهيل الإجراءات، ووقف التسريحات، وتحفيز المؤسسات الصغيرة والكبيرة... التي لا يرى المواطن في الكثير منها إلا تلميعا وتسويقا للوزارات المعنية والمسؤولين فيها... وبأن الإعلام الحكومي “مقصر ولا يعمل على كشف الحقائق ولا يوفر الفرصة والمساحة بالتساوي للأطراف جميعها للتعبير عن رأيها وقول ما لديها”. فأين الحقيقة إذن؟ وكيف يمكن الوصول إليها، وكيف يمكن كذلك، معالجة تهاوي الثقة بين الشعبي والرسمي، فيما يتعلق بقضايا المشهد الوطني، وبما يحقق تطلعات ورضا المواطن؟ وإلى متى سيتواصل تعمق مشكلة التشكيك في كل ما يطرح من قبل الإعلام الرسمي، وما هي أسباب ذلك؟ قبل أيام من نشر هذا المقال، تحدث معي زميلي السابق، في مجلس الشورى، الأخ حمد الهاشمي، الذي يسكن ولاية السويق، وكان في صوته مرارة وفي حديثه وكلماته إحباط وغضب، شعرت بها على غير العادة وفطنت إليها، قبل أن يصل إلى مقاصد وغايات اتصاله، تحدث الرجل عن الأضرار البالغة، التي سببها “شاهين” في منطقته وعلى جيرانه وأقاربه، وعلى منزله ومزرعته، مؤكدا أن ظروفهم المالية وشح النقود تعجزهم عن القيام بصيانة وترميم وإصلاح ما أفسده الإعصار، وبلغ في حديثه صلب الموضوع، بعتبه على “الإعلام الرسمي”، الذي لا يفتأ “يكرر ويعيد” أخباره وتقاريره بشأن حجم الأموال المخصصة والمصروفة للأسر والمنازل والمناطق المتأثرة من “الأنواء المناخية”، فيما الحقيقة والواقع أنه والكثير من جيرانه لم يحصلوا على “ريال واحد” بعد، وقد بادر حمد شخصيا بالاتصال بسعادة وكيل التنمية والحديث معه، والاتصال بطاقم الوزيرة كذلك، وطوال تلك الفترة يسمع وعودا لا تنفذ. عندما ناقشت هذه الإشكالية مع بعض الأصدقاء، أشار عدد منهم، إلى ضعف التنسيق أو حتى غيابه بين الجهات الحكومية فيما بينها، أو بينها وبين مؤسسات المجتمع المحلي الفاعلة، فلماذا لا تشرك الأندية الرياضية وجمعيات المرأة وفرق العمل الخيرية والشيوخ والرشداء وأعضاء الشورى والولاة... في فرق منظمة وفاعلة ونشطة تتحرك في الميدان للإسهام في البحث والاستقصاء وكشف الحقيقة وما التبس على الجهات المختصة... يكون لها مظلتها وآليات عملها وتوزيع صلاحياتها وتصبح في المستقبل عونا للحكومة في أوقات الجوائح والكوارث والطوارئ والعمل الميداني الوطني؟ فيما أكد البعض على أن المؤسسات الحكومية لا تمتلك قاعدة بيانات معتمدة ومتينة، تحتوي على معلومات شاملة عن المناطق والقرى والأحياء السكنية والبيوت والأسر... يعتمد عليها في سرعة وفاعلية تقييم الأضرار وتوزيع المساعدات وكشف ما التبس على المعنيين بسبب تدافع الأفراد في تسجيل أسمائهم وطلب المساعدات وإن كانوا غير مستحقين لها. وعزا آخرون السبب إلى بطئ العمل الحكومي بشكل عام وتعقيد الإجراءات وضعف الأداء الذي يظهر في مشاهد ومواقف وصور متعددة. أيا كان السبب، فإن الفرص التي قدمها “جونو”، وجائحة “كوفيد19”، واليوم “الشاهين”، والدروس والتجارب والإشكاليات وأوجه الخلل التي كشفت عنها يجب استثمارها في تفعيل وتعزيز وتنظيم وتأهيل وجاهزية أعمال الطوارئ ومبادرات وجهود الأعمال التطوعية مستقبلا لنكون مستعدين للتعامل بفاعلية عالية مع الجوائح والكوارث أيا كان نوعها. ومن جانب آخر، فإن العمل على ترميم وتعزيز وتعميق ثقة المجتمع بالجهود والمشاريع والمبادرات والإنجازات الحكومية، أصبح ضروريا وملحا، ويتطلب لكي تصبح واقعا، إصلاحا في سياسات وأداء الإعلام الحكومي، برفع جرعات الحرية في التعبير، والشفافية والموضوعية في الطرح وصياغة الأخبار باحترافية عالية، واطلاق برامج حوارية تكون ملتقى لجميع أطراف القضية أو الموضوع المخصصين للنقاش، والتي تتصدر المشهد المحلي، وتخصيص مساحة كافية للمواطنين والشباب لطرح مشكلاتهم وملاحظاتهم ومقترحاتهم على المسؤولين والجهات الحكومية، وزيارة الأماكن المنكوبة من الأنواء المناخية، أو المحتاجة إلى تنفيذ أو تفعيل وتجويد خدمة ما، والالتقاء بأكبر عدد من المتضررين والاستماع إلى وجهات نظرهم وملاحظاتهم بشأن الجهود والأعمال التي تبذل لإعادة الحياة إلى طبيعتها، وهكذا تكون السياسة في كل حدث وواقعة وقضية يكون المواطن طرفا فيها.