د. جمال عبد العزيز أحمد:
الوقوف القرآنية تتعلق تعلّقًا مباشرًا بالمعنى، وتتصل اتصالًا قويًا بالدلالة، وقد قسمها علماء الأداء القرآني، أو علماء الوقف والابتداء حسب درجة
التعلق، وشدته إلى أنواع كثيرة منها الوقف الحسن، والوقف الكافي، والوقف التام، والوقف القبيح، ومنها كذلك الوقف اللازم، والوقف الممنوع، وأتوقف
هنا عند الوقف الممنوع، وأتناول معناه، وسبب قولهم بمنعه من وجهة نظر نحوية دلالية، وفق تخصصي، وقد كان موضوعي في الدكتوراه متعلقًا بالوقف في كتاب الله.
والوقف الممنوع ـ في أيسر تعريفاته وأقربها للمتعلم ـ هو الوقف على كلام لم يتم في ذاته، ولم يؤد معنى صحيحًا، لشدة تعلقه بما بعده: لفظًا ومعنى، وهو وقف منهي عنه، وعلامته في المصحف الشريف هي (لا)، أي: لا تقف، أو يمنع الوقف هنا بسبب اتصال المعنى بما بعده، وهذا الوقف تحكمه
جملة قواعد نحوية، من المهم هنا تلخيصها، حتى إذا شرعنا في تحليل آياته اصطحبتنا تلكم القواعد، فيسرت لنا فهم قول علماء التجويد:(لا يجوز الوقف هنا لاتصاله اللفظي والمعنوي).
ومن تلك القواعد النحوية التي تحكم هذا النوع من الوقف ما يأتي: أولها: لا يوقف على القول دون المقول، بمعنى أنك لا تقف على كلمة (قال) حتى
تستوفي ما قيل (المقول)، مثال ذلك: قوله تعالى:(وقال الله إني معكم)، فلا يجوز هنا الوقف على كلمة (قال) إلا إذا ضاق نفس القارئ، أو انتهى
الهواء في رئته، وعندئذ يلزمه أن يأتي بكلمة (قال) قبل المقول ليتم المعنى الأساسي للجملة، ويتضح المراد منها، والمقصود بها، وكذاك في وقف
أحدهم خطأ:(قال رب أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر)، والبدء بقوله تعالى:(وامرأتي عاقر)، فكأنه يدعو على نفسه بأن يجعل الله امرأته عاقرا من حيث لا يدري، فالصواب ألا يقف هنا على (الكبر)، والبدء ب(وامرأتي عاقر) لأن الوقف على القول دون المقول لا يجوز، ولا على المعطوف دون المعطوف عليه ـ كما سيأتي ـ وهو من قبيل الوقف الممنوع المعبر عنه بالرمز (لا).
ثانيها: لا يجوز الوقف على المضاف دون المضاف إليه، ومثاله قوله تعالى:(الحمد لله رب العالمين) فلا يجوز الوقف على (رب) لكونه متعلقًا بما بعده، وهو المضاف إليه:(العالمين)، ونحو:(فتبارك الله أحسن الخالقين)، لا يجوز الوقف على (أحسن) حتى تستوفي الوقف على (الخالقين).. وهكذا.
ثالثها: لا يجوز الوقف على الموصوف دون صفته لشدة تعلقهما، لأن الصفة والموصوف كالشيء الواحد، فلا يجوز الوقف على قوله:(إله) من قوله تعالى:(إنما الله إله واحد) لأنه موصوف يتطلب الصفة، ليكتمل المعنى المراد، وكذا لا يجوز الوقف على قوله:(الوسواس) في قوله:(من شر الوسواس، الخناس) للسبب نفسه، وهكذا.
رابعها: لا يجوز الوقوف على صاحب الحال دون الحال، فلا يجوز الوقوف على قوله:(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما)، لأن ما بعده حال، وهو
قوله:(لاعبين) حتى لا يتحول المعنى إلى النقيض، وأن الله لم يخلق لا سماء، ولا أرضًا، ولا ما بينهما (والعياذ بالله)، وهو بالطبع نقيض المراد تمامًا،
كما لا يجوز الوقف على قوله:(بعلي) من قوله تعالى: (وهذا بعلي شيخًا)، لأنها لم ترد إثبات أنه بعلها، أو زوجها فذاك أمر معروف، لكنها أرادت أن
تخبر الملائكة أن بعلها (شيخ كبير فان)، فكيف يكون منه الولد؟!، وهي كذلك عاقر لا تلد؟!، فالوقف على (بعلي) مناقض للمقصود، مباين للمراد من
القصة، ومهدر لبيان عظمة الله في أن يرزق العاقر التي كبر زوجها، وطعن في السن، وبلغ حد الشيخوخة ـ يرزقها الولد، ويمتعها بنعمة الأمومة الجميلة، ولا يحرمها منها، حتى وإن كانت عاقرًا، لا تلد، وإن كان زوجها قد بلغ من الكبر عتيًّا، وحدا لا يقوى فيه على المباشرة، ومتطلباتها، وتبعاتها.
خامسها: لا يجوز الوقف على المعطوف دون المعطوف عليه، لأن القاعدة أن المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد، أو كالكلمة الواحدة، فلا يجوز الوقف على (الجِنّة) في قوله تعالى:(من الجنّة والناس) لأن الاستعاذة شملت التعوذ منهما معًا، لا من أحدهما دون الآخر، كما لا يجوز الوقف على:(أنتما) من قوله تعالى:(بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون)، لأنه يريد أن يجمع بينهما وبين من اتبعهما معا في الغلبة، والفوز.. وهكذا.
سادسها: لا يجوز الوقوف على الشرط دون الجواب؛ لتعلق الجواب بالشرط في أصل الإفادة، وأن الجواب مع الشرط بمثابة الشيء الواحد، فلا يجوز
الوقف على:(إن تكونوا صالحين) من قوله تعالى:(إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورًا) لأن المعنى متكامل، والدلالة واحدة في أنهم إن كانوا صالحين فهم أوابون، والله يغفر لكل أواب، منيب، ورجاع باك، من ربه حبيب، قريب، كما لا يجوز الوقف على:(من عمل صالحًا)، من قوله تعالى:(من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها)، وذلك بسبب شدة تعلق جواب الشرط بالشرط في أصل المعنى، وأن الوقف على الشرط دون الجواب مناف للمقصود، هادم للمعنى، ليس وراء من طائل، ولا يؤدي هدف القرآن الكريم، ومراده من سوق الجملة الشرطية كاملة بكل دلالاتها، ومعانيها.
سابعها: لا يجوز الوقف على الموصول دون صلته، أي: لا يقف القارئ على أسماء الموصول العامة:(من ـ ما)، ولا أسماء الموصول الخاصة:(الذي ـ التي ـ اللذان ـ اللتان ـ الذين ـ اللاتي ـ اللواتي ـ اللائي ـ اللوائيـ الأُلى)، لأن الموصول مع صلته كالشيء الواحد كذلك، فلا يجوز الوقف على:(الذي) في قوله تعالى:(إن الذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معاد)، ولا على نحو:(التي) في قوله تعالى:(قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ..)، وهكذا، لافتقار الموصول إلى صلته في المعنى وأصل الإفادة.
ثامنها: لا يجوز الوقف على المتعلق دون مجيء المتعلق به؛ لافتقار كل منهما إلى الآخر في المعنى، وكمال الدلالة، فلا يجوز الوقف على:(لرادُّك)
في قوله عز وجل السابق:(إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادُّك إلى معاد) لأن الجار والمجرور قد حدد انتهاء رده، ولو وقف القارئ على قوله:(رادُّك) لانتفى ذلك التحديد لأن (إلى) لانتهاء الغاية: المكانية، والزمانية، كما لا يجوز كذلك الوقف على قوله:(تُجادلك) في الآية السابقة، لتعلق الجار والمجرور: (في زوجها) بالفعل (تجادل)، وذلك ليفهم مع من كانت المجادلة، والسبب في حدوثها، وكذلك لا يجوز الوقف على قوله:(وتشتكي) في القول السابق، وذلك لتعلق الجار والمجرور بعده:(إلى الله)، بالفعل (تشتكي)، ومن خلاله تحدد المشتكى إليه، ومن يكون إليه اللجأ، والشكوى، وهو الله رب العالمين.
هذه هي بعض القواعد، لا كلها، التي تحكم قضية الوقف الممنوع، وتبين ماهيته، وتكشف عن طبيعته، وأنه أمر متعلق بالدلالة أيما تعلق، وأتقنه، ومرتبط بالمعاني أشد ارتباط، وأحكمه، وأن من لا علم له بتلك القواعد فإنه من السهل عليه الوقوع في الخطأ، وربما أثم بوقفه دون أن يدري، أو نسب إلى نفسه شيئا، وهو لا يعي، جراء جهله، وعدم إدراكه للمعنى، لخلوه من علم الإعراب، ومن علم النحو، وقواعده، ومن ثم نطالب الذين ينصبون أنفسهم لتعليم الناس أحكام التجويد بأن يحصلوا قواعد علم النحو، وقواعد علم الصرف، ويقفوا على أغلب قواعدهما، ليكونوا على علم بالتراكيب القرآنية الكريمة، ومعانيها الجليلة، ويبينوا للمتعلمين السبب في منع الوقف هنا، وهناك، وهنالك، وأن المسألة ليست وقوفًا اعتباطية، لا يحكمها معايير، أو لا تضبطها قواعد، وإنما كل شيء في الوقف القرآني محدد الدلالة، وله قواعد لغوية تحكمه، وضوابط صرفية ولغوية تبينه، وأن كتاب الله محوط بالعصمة، مشمول بالرعاية، متضمنة في ضبط الوقوف فيه قواعد وقوانين تبين جلاله، وتوضح كماله، وتبرز بهاءه، وجماله، وعلينا تعلمها من أهلها، ودراستها على يد متخصصيها، لتسلم قراءتنا، ونفهم كلام ربنا، ونقف على وجوه إعجازه، ومناحي عظمته، وكل وقف له دلالاته، ومعانيه، وله قيمه، ومبانيه، وله أغراضه، ومقاصده، ومراميه، وسورة النحل فيها (تسعة وقوف ممنوعة)، وهي السورة التي فيها تلك الوقوف الكثيرة من هذا النوع من الوقوف الممنوعة، التي سنبينها في اللقاء القادم، وصلى الله وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ـ قسم النحو والصرف والعروض
[email protected]