د. أحمد مصطفى أحمد:
يمكن النظر إلى القلق العالمي من ظهور الطفرة الجديدة في فيروس كورونا (كوفيد-19) على أنه مؤشر على يقظة البشرية بأن وباء كورونا لم ينتهِ بعد. لكن لا داعي إطلاقا للذعر من متحور "أوميكرون" الجديد والإسراع في رد الفعل الشديد والقاسي بما يضر بالنشاط البشري ربما أكثر من ضرر الفيروس نفسه. فمن طبع الفيروسات، كل الفيروسات، أن تحدث بها طفرات باستمرار تعدل من تركيبها الوراثي على شريط الحمض النووي الأحادي لها. ولا يوجد أي نوع من الفيروسات ليس منه مئات وآلاف المتحورات نتيجة تلك الطفرات المستمرة. بعض تلك الطفرات يساعد الفيروس على الاستمرار ومواجهة المقاومة الطبيعية له، من البيئة وجسم العائل الحي من إنسان وحيوان ونبات، وبعضها يؤدي إلى ضعف تأثيره وربما اختفاؤه مؤقتا فيصبح جمادا خاملا غير نشط حيويا.
صحيح أنه لا يعرف بعد إن كانت الطفرة الجديدة التي نتج عنها المتحور "أوميكرون" ستؤدي إلى زيادة فعالية فيروس "كوفيد-19" أم إلى ضعف تأثيره المرضي؟ لكن ما يشير إليه بعض العلماء بالفعل أن المتحور الجديد ربما يكون أقل تأثيرا من متحور "دلتا" من الفيروس الذي أصاب العالم بالذعر نهاية العام الماضي ومطلع هذا العام. أما سرعة شركات الأدوية، خصوصا تلك التي تنتج لقاحات مخلقة معمليا وليست بالطريقة التقليدية المعروفة، في الإعلان عن تطوير لقاح جديد للمتحور الجديد فربما أغراضها تجارية ودوافعها ربحية أكثر منها علمية. فليس من المنطقي أنه كلما ظهرت طفرة في فيروس أن تطور لها لقاحا خاصا، وإلا لكان لدينا مئات آلاف اللقاحات للفيروس المسبب للإنفلونزا مثلا.
كل ذلك لا يعني أن رد الفعل السريع من قبل كثير من دول العالم على الطفرة الجديدة هو أمر جيد، ويساعد على الحدِّ من الانتشار، وربما يسهم على المدى الطويل في تخفيف حدة الوباء إلى القدر الذي يمكن للبشرية التعايش معه. وحسنا فعلت أغلب الدول بأن علقت السفر لمدة محددة، وليس حتى إشعار آخر، مع الدول الإفريقية التي ظهر فيها المتحور الجديد. فقد ظهرت الطفرة بداية في بوتسوانا وتم عزلها، ومعرفة تركيبها لأول مرة من إصابة في جنوب إفريقيا. صحيح أيضا أن تعليق السفر من تلك الدول وإليها لن يمنع تماما وصول المتحور الجديد لبقية دول العالم، فقد بدأت الحالات في الظهور في دول أوروبا وأميركا الشمالية وغيرها بالفعل. ومعروف أيضا أن اللقاحات لا تعني منع الإصابة بالعدوى، لكنها تخفف من تأثير الفيروس في حالة الإصابة وتساعد الجسم البشري على مقاومته والحدِّ من أعراضه المرضية. لكن وتيرة التطعيم باللقاحات حاليا في أغلب دول العالم وقدرة الشركات على إنتاج اللقاحات بمعدلات كبيرة كفيلة بألا تجعلنا نصاب بالذعر من الموجة الجديدة من متحور فيروس كورونا.
من المهم أيضا التذكير بأن العالم تعلم بالفعل من أزمة الوباء الكاسحة العام الماضي، والدليل على ذلك أن تأثير الموجة الثانية من متحور دلتا مطلع هذا العام لم تؤدِّ إلى أضرار بقدر ما أدت إليه الموجة الأولى في ربيع عام 2020. فقد أصبح البشر أكثر قدرة على التكيف وتقليل تأثير القيود المفروضة للوقاية والحدِّ من انتشار الوباء على نشاطهم وتفاصيل حياتهم. ربما لم تصل البشرية بعد إلى الوضع الأمثل للتعايش مع الفيروس، كما أصبحت منذ فترة طويلة تتعايش مع غيره كفيروسات الإنفلونزا ونزلات البرد، لكن القدرة على التكيف والمرونة في تطويع السلوك أصبحت أكبر وأسرع. قد يكون في القلق من المتحور الجديد ما هو إيجابيا فعلا بتذكيرنا ألا نتخلى عن ممارسات الصحة العامة الوقائية التي فرضت علينا في البداية مع أول الوباء، لكنها بالفعل سلوك جيد يتعين أن نحافظ عليه قدر الإمكان. ليس فقط لمواجهة الموجة الجديدة، ولكن تحسبا لأي تطور آخر أو وباء مفاجئ يهاجم البشرية. فكما يقول المثل "درهم وقاية خير من قنطار علاج". ثم هي في النهاية ممارسات نظافة عامة من غسل اليدين بالصابون باستمرار ولحفاظ على التباعد في الأماكن المزدحمة وتغطية الأنف والفم حين السعال أو العطس والحرص على تنشق الهواء الطلق باستمرار.
يبقى من المهم ألا تبالغ السلطات حول العالم في إثارة الذعر من الموجة الجديدة، وإن شددت إجراءات الوقاية والحماية والحدِّ من الانتشار. وعلى الإعلام أيضا أن يلعب دورا أساسيا في الحث على تلقي تطعيمات اللقاح والعودة للالتزام بالمعايير الوقائية، في إطار القلق، لكن دون إثارة الذعر واللجوء إلى العناوين المثيرة والآراء التي بها شطط والتي يمكن أن يكون لها تـأثير عكسي هائل على حياة البشر. وربما يكون المناسب الآن ألا تتعجل السلطات النقدية، من بنوك مركزية وغيرها، في تغيير سياساتها حتى يتضح التأثير النهائي للموجة الجديدة من الوباء على الاقتصاد. صحيح أن أغلب التوقعات أن تأثيرها سيكون أقل من الموجات السابقة، لكن اللجوء إلى تشديد السياسات النقدية (رفع سعر الفائدة ووقف ضخ السيولة) بسرعة ربما لا يفيد في كبح جماح معدلات التضخم التي تواصل الارتفاع وإنما يضر أكثر بفرص النمو والتعافي من أزمة الوباء.