خميس بن عبيد القطيطي:
لا شك أن الخوض في تاريخ بعض الشخصيات الجدلية يشبه الخوض في حقول الألغام، إلا أن تحري التاريخ لأي شخصية سجلت صفحة من صفحات التاريخ وارتبط حضورها بتاريخ بلد كبير هو أمر مهم، وأهميته تكمن في إسقاط هذا التاريخ على واقع أمتنا العربية الراهن والاستفادة من دروس التاريخ، وكذلك لإنصاف أي شخصية تكالبت عليها سهام الإعلام. وهذا السياق ينسجم مع شخصية الرئيس العراقي صدام حسين الذي كان جزءا من تاريخ العراق الحديث، ورغم إدراكنا التام بحالة التعصب والغليان لدى البعض بمجرد ذكر اسم صدام حسين أو استحضار تاريخه مما يؤكد على عدم القبول بالرأي الآخر أو محاولة إلغائه وكلاهما أمر مؤسف. فالتاريخ لا يكتب حسب الأهواء والميول والتوجُّهات. وللأسف الشديد، وقع الكثير من وسائل الإعلام في ذلك، فغابت المهنية والمصداقية وحلت محلها الاتهامات والتلفيقات والتفسيرات المغلوطة، بل والأكاذيب أحيانا بقصد إسقاط هذه الشخصيات من صدارة المشهد العربي والدولي. ورغم الجدل الكثير المحيط ببعض الشخصيات فإنها كانت فصلا من فصول التاريخ العربي الحديث وامتلكت إرادة الفعل فسجلت صفحات مضيئة وأخرى قاتمة. وللأسف أن هذا الجدل وطغيان التوجُّهات والميول لم يقدم للتاريخ والإعلام العربي أي صيغ متوازنة وصادقة ومفيدة. وللعلم، تاريخنا العربي مشبع بهكذا تصفيات وإعدامات لضحاياه، وما يؤكد ذلك عبر التاريخ العربي نبش قبور بعض خلفاء الدولة الأموية بعد سقوط خلافتهم تشفيا وحقدا من قبل خلفاء الدولة العباسية، وهكذا هي ملامح التاريخ العربي والإعلام العربي يمارس نفس الفعل في ماضي أمتنا العربية وحاضرها، وهذا لم يحدث حتى في تاريخ الغزاة الذين اجتاحوا المشرق العربي كالحملات الصليبية والتتار !!
تاريخ صدام حسين لا يمكن اختزاله في مقال أو حلقة أو جلسة حوارية؛ نظرا لحجم هذا التاريخ وزخم أحداثه، ولا شك أن هذا التاريخ بطبيعته البشرية كان له نصيب من النجاح والإخفاق خلال الحقبة الزمنية التي كان فيها صدام حسين جزءا من تاريخ بلده وأُمته. وحتى صدام حسين نفسه ذكر في بعض المراجعات الشخصية على وسائل الإعلام ما يؤكد بعض الأخطاء. ففي إحدى الكلمات المنقولة عنه تلفزيونيا تحدث عن الحرب العراقية ـ الإيرانية بقوله: إننا حجبنا الجانب الخير لإيران، فهو يدرك عبثية تلك الحرب، ولكنها فرضت نفسها على الواقع السياسي والجغرافي للبلدين لأسباب معيَّنة، وقد أدرك أن المستفيد منها القوى الاستعمارية. فكم من الأحداث التاريخية لا يمكن منع وقوعها، وبعد أن تأخذ مجراها في حركة التاريخ تتبين فواجعها. وفي أحد المقاطع أيضا، ذكر صدام حسين أنه لا يقبل أية إساءة في الخميني ـ حسب حديثه ـ باعتبار أن الرجل انتقل إلى جوار ربه رافضا أي حديث إعلامي يسيء لخصمه التاريخي، وهنا تتجلَّى الأخلاق العربية في مثل هذه المواقف. وهناك الكثير من المواقف الأخرى التي قد تبرز حالة مراجعة تاريخية ونقد ذاتي، إلا أن تأثير الصفات الشخصية الطاغية في تاريخ بعض القيادات ينعكس على ما تسجله على صفحات التاريخ سلبا وإيجاببا .
يشير البعض إلى أن الرئيس صدام حسين بقدر ما أنجز بقدر ما دمر بلده في نهاية المطاف، ولكن هذا التفسير غير دقيق على الإطلاق. فالعراق بلد عظيم يمتلك من مقوِّمات النهوض والقوة والمنعة ما يضعه منافسا قويا للقوى الاستعمارية في المنطقة مُهدِّدا لوجود الكيان الصهيوني، ومن هنا قرار عالمي بتدميره، سواء وجد النظام الدولي المهيمن عليه من قبل قوى الاستعمار المسوغ والذرائع أو لم يجد تلك الذرائع، فالقرار كان ساريا، وعلى القوى العالمية التي أوجدت كيان الاحتلال الإسرائيلي في الوطن العربي تنفيذه بأي شكل من الأشكال، حينها كانت الغطرسة الاستعمارية تعرض عضلاتها شرقا وغربا بعد سقوط نظرية الثنائية القطبية، وبالمقابل وجدت في هذا النظام العراقي خطرا يهدد كيان الاحتلال الإسرائيلي، وخطرا على مصالح القوى العالمية في الإقليم، وأن هذه الدولة العراقية الناهضة والقوية بقيادتها العروبية المتمسكة بحقوق أمتها قادرة على الإضرار بأهم المصالح الغربية في المنطقة وهما النفط و"إسرائيل" وعليه يجب تدمير العراق، كما أن الأمر الآخر الذي يجب الإشارة إليه أن العراق بقدراته وموقعة المهم وأهميته الجيواستراتيجية في خريطة الوطن العربي الكبير ما كان له أن يقف على الحياد في قضايا أمته العربية والتاريخ شاهد على ذلك، فمن الطبيعي لبلد عظيم كالعراق أن يتحرك في أي حدث تاريخي ويمثل رقما قويا وأصيلا في صناعة التاريخ، وليس للعراق أن يكون متفرجا بوجود نظام دولة حازم وقيادة قوية تغلغلت فيها مفردات القومية والعروبة، وتشربت العادات العربية لتصل إلى حد التهور في تطبيق هذا النموذج. ولا شك أن تحالف خصوم العراق يدركون هذه التفاصيل الشخصية المؤثرة على المشهد العراقي برمته، لذلك كان تدمير العراق يسير كما هو مخطط له، وقد حدث في ظل غياب عربي فاعل عن المشهد، بل كانت هناك من القيادات العربية التي ساهمت في تقديم العراق على مقصلة الإعدام .
في هذا المقال سوف نتطرق إلى جزئية تاريخية مهمة لم يسلط عليها الضوء حول نيات القيادة العراقية الهجوم على كيان الاحتلال بين عامي ١٩٨٩ ـ ١٩٩٠م، واستعدادات قوات الحرس الجمهوري العراقي لتلك الحرب التي انحرف مسارها نحو دولة الكويت في منتصف عام ١٩٩٠م، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ففي حلقة تلفزيونية خلال شهر أكتوبر الماضي لقناة روسيا اليوم مع الإعلامي المخضرم سلام مسافر الذي استضاف فيها العميد الركن د. وليد عبدالملك الراوي وهو سكرتير وزير الدفاع العراقي سلطان هاشم أحمد ـ رحمه الله. وجاءت الحلقة أعقاب مؤتمر أربيل لبحث أفق السلام مع "إسرائيل" ومقارنة بموقف العراق السابق في مواجهة هذا الكيان في عهد صدام حسين وموقفه من خلال ذلك المؤتمر، وتذكيرا بتاريخ العراق مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتركيزا على تلك الحقبة الزمنية التي شهدت تحضيرات لحرب ضد "إسرائيل" لكنها حرب لم تقع وانحرفت بوصلتها للأسف الشديد، فكان انتقاء الإعلامي القدير الأستاذ سلام مسافر باستضافة د. وليد الراوي الذي تواجد قريبا من صنع القرار العسكري، وقد أكد الراوي أنه تم استدعاء قائد الحرس الجمهوري الفريق إياد فتيح الراوي ـ رحمه الله ـ إلى اجتماع مع الرئيس صدام حسين وأبلغ بالاستعداد لمعركة العرب الكبرى مع إسرائيل، وكان ذلك في ديسمبر من عام ١٩٨٨م أي بعد انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية ووقف إطلاق النار بين البلدين الذي تم في ٨/٨/١٩٨٨م، وطلب من قائد الحرس الجمهوري التحضير لهذه الحرب، ويذكر العميد الركن وليد الراوي في هذه الحلقة أنه كان الضابط الركن الشخصي لقائد الحرس الجمهوري، وهذا ما يؤهل د. وليد الراوي للحديث عن تلك الحقبة الزمنية، ومن خلال المواقع التي شغلها في قيادة الحرس الجمهوري وفي وزارة الدفاع العراقية. وحسب حديث الراوي، جرت بالفعل تحضيرات لتلك الحرب من خلال قيام القوة الجوية باستطلاع وتصوير جوي لإسرائيل بمحاذاة البحر الميت في الأردن وبخاصية التصوير المائل الذي وصل لمسافة (٤٥) كيلومترا إلى عمق إسرائيل وصولا إلى القدس الشريف، حينها احتجت إسرائيل لدى الأردن بوجود طيران مجهول، لكن الاستطلاع والتصوير الجوي تكرر لأكثر من مرة وأخذت قوات الحرس الجمهوري استعداداتها وتحضيراتها للحرب من خلال التمارين وانفتاح القوات مثل فرقة "توكلنا على الله" المدرعة وفرق أخرى عبرت الفرات غربا وأجرت تمارين في مناطق مشابهة لمحاكاة نفس الظروف والبيئة في فلسطين المحتلة. ويشير الراوي إلى أن تحركات هذه القوات غرب الفرات يمثل حالة خطر لدى كيان الاحتلال الإسرائيلي، وهذا أمر تكرر سابقا في حرب تشرين عام ١٩٧٣م بمساندة القوات العراقية لسوريا في تلك الحرب، وفي الثمانينيات عندما هدد الرئيس التركي تورجت أوزال سوريا تحركت القوات العراقية باتجاه الحدود السورية، وكانت الاستعدادات لتلك الحرب وتحركاتها غرب الفرات تمثل قلقا كبيرا في إسرائيل، خصوصا أنها سوف تسبب ضررا بليغا على كيان الاحتلال الإسرائيلي في حال نشبت تلك الحرب. ويؤكد الراوي أن قوات الحرس الجمهوري أخذت كل الاحتياطات في الدفاع السلبي والإيجابي في حال تعرضها لأي ضربة استباقية من قبل القوات الجوية الإسرائيلية. ويضيف الراوي أن عمليات التصوير الإلكتروني لدى إسرائيل أكدت نيات العراق بشن حرب ضد إسرائيل، وهذه النيات ـ لا شك ـ كانت تؤيدها تصريحات الرئيس العراقي صدام حسين في أكثر من لقاء أو اجتماع، وهذه التصريحات متداولة على وسائل الإعلام وكانت حديث الإعلام العربي والدولي في تلك المرحلة الزمنية، فقد أعلن صدام حسين في حديثه لدى قيادات عسكرية أن "أي دولة تتجسس على العراق لا تظن أن وراءها دولة عظمى فالعراق لا يهمه أي دولة عظمى" وهدد في نهاية حديثه: "والله لخلي النار تأكل نص إسرائيل" هذا هو لسان حال القيادة العراقية في تلك الفترة الزمنية من التحشيد السياسي والإعلامي والعسكري. وفي حديث آخر أيضا ذكر أن فلسطين تستحق منا التضحية، معاتبا أشقاءه العرب على الصمت في مشاهدة ما يحدث في فلسطين مؤكدا أن أي ضربة على العراق أو أي بلد عربي ستكون الضربة الثانية في تل أبيب، ولم يكن حديث صدام حسين ـ رحمه الله ـ للتسويق الإعلامي بدليل إطلاق (٣٩) صاروخا أثناء الحرب الخليج الثانية على إسرائيل، ومن خلال ما سبق تتأكد جدية العراق في مواجهة الكيان الصهيوني .
وعودا على بدء فيما يتعلق بالاستعداد والتحضيرات لمعركة العرب الكبرى، كما وصفها الراوي في حديثه، أن القرار السياسي كان بيد القيادة العراقية، أما الاستعدادات فجرت على قدم وساق من قبل القوات العراقية وألوية قوات الحرس الجمهوري التي انفتحت بكامل عتادها لخوض تلك الحرب لاستعادة الحقوق العربية، مؤكدا الراوي على أن هذا الفكر للدفاع عن فلسطين واستعادة الحقوق العربية متجذر في القيادات القومية والوطنية وحتى الإسلامية، حسب حديثه. ولكن ما حدث بعد ذلك جنوبا وإثارة مشكلة الكويت وحقول النفط والديون وإغراق أسواق النفط والتلاسن الإعلامي الذي مثل القشة التي قصمت ظهر البعير كلها لم تكن بعيدة عن دوافع وتأثيرات خارجية لحرف بوصلة العراق من الشمال إلى الجنوب، واستفزاز شخصية صدام حسين المعروف عنها تهورها والذي لا نبرره في هذا السياق خصوصا تجاه بلد عربي شقيق، وبعد استنفاد كل المحاولات الدبلوماسية كان ما كان من الهجوم على دولة الكويت، وهو ما تعاني منه الأمة حتى اليوم.
الحديث عن الشخصيات التاريخية في تاريخ أمتنا العربية يتطلب شيئا من الإنصاف والأمانة رغم إدراكنا بحجم تلك الأخطاء التي أعادت الأمة إلى الوراء، ولكن يبقى صدام حسين جزءا من تاريخ العراق الشقيق بما له وما عليه، فكان العراق يمثل البوابة الشرقية للوطن العربي وكان العراق مهابا يمتلك دولة عظيمة وقوة عسكرية ضخمة وقدرات اقتصادية كبيرة ونهضة علمية وعمرانية، وقيادة قومية عروبية تنهج قِيم ومبادى الأمة العربية، وهذه كلها كانت كفيلة بإصدار قرار عالمي بتدمير العراق، سواء كان صدام حسين يحكم العراق أو غيره، ولذلك ينبغي أن نفصل التاريخ بحقائقه لا بتوجُّهات إعلامية وشخصية خاصة، رحم الله صدام حسين وأسكنه فسيح جناته، وأعاد لهذه الأمة صدارتها للتاريخ وعزتها .