سعود بن علي الحارثي:
لا نستطيع أن نتكئ ونطمئن ونتفاءل ونتعاطى بإيجابية مفرطة مع القراءات والمؤشرات "المضيئة"، التي تصدرها وزارة المالية حول انخفاض العجوزات وارتفاع الفوائض المالية وتحسن التصنيف الائتماني المالي للسلطنة لدى المؤسسات الدولية، والنظرة التفاؤلية حول الأداء الجيد للاقتصاد في المستقبل... باعتبارها إنجازا كبيرا أسهمت فيه الوزارة بسياساتها المالية، وجاء كذلك انعكاسا لخطة "التوازن المالي"، وتنفيذا لأهداف ومحاور رؤية "٢٠٤٠"، كما يشار ويربط كل مؤشر مالي إيجابي بهما. نعم لكنا تفاءلنا وابتهجنا وتعاطينا مع هذه الخلاصات والانعكاسات المبشرة، واحتفلنا بمناسبة الإعلان عنها، لو أنها جاءت كنتيجة حقيقية لارتفاع عوائد القطاعات الاقتصادية المستهدفة، في الناتج الإجمالي المحلي، كالزراعة والتصنيع والنقل والتموين والسياحة والتعدين والثروة السمكية وغيرها، وعبَّرت عن نُمو محقق لنتائج الاستثمار الذي وجَّهته الحكومة لتنمية وتطوير هذه القطاعات عبر العقود القليلة الماضية، ولو أنها أسهمت كذلك في تحقيق أرقام وإسهامات مرضية في تعزيز متطلبات الأمن الغذائي... إن النتائج الإيجابية المعلن عنها تحققت ـ وفقا لوجهة نظري ـ لسببين اثنين، أولها: القفزة الكبيرة في ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، من حوالي منتصف الثلاثين دولارا قبل سنة ونصف، إلى ما فوق الثمانين، قبيل إعداد هذا المقال، ما أدى إلى ارتفاع العوائد المالية وأراح بنود الإنفاق في ميزانية الدولة وأسهم في تحقيق شيء من التوازن بين الإيرادات والمصروفات، ثاني هذه الأسباب: إقرار الضرائب وزيادة الرسوم ورفع الدعم عن عدد من الخدمات الأساسية، واتباع سياسات تقشفية شملت معظم القطاعات والمؤسسات الحكومية، وإحالة بأوامر أو برغبة آلاف الموظفين إلى التقاعد، وعدم تجديد عقود ما "يقل عن ٧٠% من الأجانب العاملين في المؤسسات والشركات الحكومية، وهي مجتمعة أسهمت في تعزيز موارد الدولة، لكنها في المقابل أضعفت قطاعات الأعمال والتجارة والأنشطة الاقتصادية بشكل عام، وقادت ـ مع انعكاسات جائحة "كوفيد١٩" ـ إلى إفلاسات وتسريحات، وزادت من أعباء المواطنين وضاعفت من الباعة العمانيين في الشوارع ومن نسبة الفقر، فسياسات التقشف، و"معدلات الضرائب المرتفعة تقلص القاعدة الضريبية؛ لأنها تقلل من النشاط الاقتصادي وتقتل الحافز على العمل. كما يؤدي فرض الضرائب المرتفعة إلى خنق النشاط الاقتصادي وقتل حوافز العمل والاستثمار، فيؤدي آخر الأمر إلى انخفاض الإيرادات الضرائبية..."، كما كتب عن ذلك ابن خلدون، وهو ما يؤيده ويوافق ويبرهن عليه معظم إن لم يكن جميع الخبراء والمحللين الاقتصاديين في العصر الحديث. وعندما استوضحت من أحد الخبراء الاقتصاديين المتخصصين، عن دقة البيانات التي نشرتها وزارة الاقتصاد، حول "القفزات الملموسة لمساهمة بعض قطاعات التنويع الاقتصادي في العام الأول من خطة التنمية الخمسية العاشرة"، مثل "قطاع الصناعات التحويلية من ٨،٧% إلى ٣٤،٢% وقطاعات النقل والتخزين والاتصالات، من 7,9% إلى 15,8% وكذلك قطاعا الثروة السمكية من 9% إلى 21% والتعدين من 6,8% إلى 7,7%"، وفيما إذا كانت تمثل قيمة اقتصادية كبيرة في مؤشرات النُّمو، بمعنى أنها تعبِّر عن نجاح السياسات الإصلاحية، وحجم تأثيراتها في التنويع وفي الناتج الإجمالي...؟ أجابني بأن "هذه المعلومات دقيقة من زاوية نسبة النمو وليس التنويع، لكنها مضللة من جانب أنها تقارن بين عامي ٢٠٢٠ (حدة الأزمة الصحية وانخفاض الأسعار) وبين عام ٢٠٢١ الذي هو أفضل، كذلك فإن الصناعات التحويلية تعتمد على نُمو النفط والغاز فهو يمثل معظم نُموها، وقد شهد ارتفاعا كبيرا في الأسواق العالمية، انعكس إيجابيا على نُموها. وباختصار فهذه نسب نُمو وليست مساهمة، وستظهر بهذه الصورة اعتمادا على سنة أساس كان الاقتصاد فيها متوقفا (2020)، ونسب النُّمو لا تعبِّر بالضرورة عن نجاح التنويع". وهو ذاته ما أكد عليه المغرد "خالد الصالحي"، في حسابه في "تويتر" مشيرا إلى أنه و"لكي تكون المقارنة صحيحة يجب أن نقارن بالعام 2019، وليس بالعام 2020 الذي شهد تراجعا كبيرا في النشاط الاقتصادي بسبب الجائحة، (وهي سنة استثنائية بامتياز)، غير صحيحة، لأنها تعطي انطباعا بارتفاع كبير في معظم المؤشرات الاقتصادية"، دون أن يغفل بالطبع، المؤشر الإيجابي من هذا النُّمو المتمثل في "عودة الانتعاش الاقتصادي لما كان عليه الوضع قبل كورونا"، والذي "يحتاج إلى مزيد من التحفيز وزيادة الاستثمار وتنوعه لخلق فرص عمل جديدة للشباب". صحيح أن هناك العديد من السياسات المهمة التي أعلن عنها وأقرها جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ أيَّده الله ـ لإحداث إصلاحات اقتصادية وإغلاق العديد من سواقي الإنفاق غير المجدية، وغير المستدامة وغير المحققة للنُّمو وتدخل ضمن أنواع الفساد، وتصب في تحقيق منافع مؤسسات وأفراد بعَيْنهم، وجهود ومبادرات يعلن عنها "جهاز الاستثمار العماني"، في مجال "تعزيز استثماراته الدولية"، وتحقيق مستويات مرضية في مسار التنويع، ولكننا نحتاج في المقابل إلى نظام حمائي عادل ومنضبط، ويعمل وفق آليات عمل صارمة يحقق لفئات المجتمع من ذوي الدخول وقطاعات العمل والمؤسسات المتوسطة والصغيرة الحماية من انعكاسات وتأثيرات الضرائب، ويوفر دخولا للباحثين عن عمل والمسرحين، وإنقاذ المؤسسات وبيئات العمل من الإفلاس والضياع في فترات الانكماش والأزمات المالية خاصة... وتحديث وتطوير التشريعات وتسهيل الإجراءات وضبط وتنظيم سوق العمل وتعزيز أدوار المحاسبة والمساءلة لإيجاد بيئات عمل محفزة وجاذبة للاستثمارات الداخلية والخارجية، والإسراع في تحقيق جميع الأهداف التي تضمنتها رؤية 2040، وبرنامجا "تنفيذ" و"التوازن المالي" والخطط الخمسية في شموليتها ليتحرر الاقتصاد العماني من قيود الاعتماد شبه الكلِّي على النفط في تمويل موازناته والإنفاق على التنمية، وضمان توفير فرص العمل للعمانيين، وليصبح النُّمو معتمدا على التنوع ونتيجة للإصلاحات التي تم استحداثها، وعلى استثمار مقدرات وثروات الوطن وتعليم ومواهب وإبداع أبنائه. لقد تابعنا قبل أيام، كيف أن خبرا عن تفشي سلالة جديدة من "كوفيد١٩"، المسمى "أوميكرون"، في بعض دول جنوب القارة الإفريقية، ما زال الجدل قائما بشأن حقيقتها ومخاطرها، تبعته إجراءات احترازية، وتعليق للرحلات مع هذه الدول، من قبل الحكومات المستوردة والمستهلكة للنفط، أودى في يوم واحد بأكثر من ١٠% من قيمته في الأسواق العالمية، وانعكست تأثيراته سلبا على أداء سوق مسقط للأوراق المالية الذي شهدت أسهمه تراجعات كبيرة، فهل يمكن أن نسلم اقتصادنا، حياتنا ومستقبلنا لمصدر دخل وحيد، تتحكم فيه سلسلة من المواقف والأحداث والتصريحات والسياسات والمؤامرات التي من شأنها رفع وخفض أسعاره في سوق غير مستقر، ولا يمكن الاطمئنان لنيات وتوجُّهات وغايات مضاربيه والمافيا التي تتحكم فيه وسياسات البلدان القوية والنافذة التي تستورده، وتعمل بكل الوسائل لضمان شرائه بسعر بخس؟