- جريدة الوطن - https://alwatan.com -

(أوميكرون).. يكشف عوار العالم

إبراهيم بدوي

إبراهيم بدوي:
كنت أعتقد أن العلوم الطبيعية لا تخضع بأي حال إلى وجهات النظر، فالعلوم تقوم على أبحاث ودراسات، بطرق محددة، لتخرج بنتائج محددة مقبولة علميا، ويظل الخلاف العلمي بين علماء الفيزياء والكيمياء والأحياء بكافة تخصصاتهم، نتائج أن أولويات الأبحاث واقعها المختبري. وكان هذا التصور عقيدة راسخة لديَّ بأن لغة الأرقام لا تعرف الكذب، الأبحاث العلمية لا تقوم إلا على حقائق، لم أعرف هل هذه سذاجة مني أم هي مجرد عدم تخصص؟ فالتعمق في لغة الأرقام أثناء عملي الصحفي أثبت لي أن لغة الأرقام (الطاهرة) تكذب وتغش، وتلوى لاستحداث واقع من العدم، وأن من خلال تجاهل أو دمج بعض الأرقام المكونة للمشهد نستطيع أن نوجد إنجازات اقتصادية من وحي الخيال، بل نحن قادرون بتوجيه قليل بالدفة الرقمية، وهنا لا أقصد تزييف أرقام أو غيره لا سمح الله، نستطيع أن نوجد واقعا اقتصاديا مغايرا للحقيقة. والغريب أن هذه الطريقة تنجح ويتحول الواقع المختلق لحقائق اقتصادية يُبنى عليها، باستخدام بعض المسكنات لتخطي بعض الأزمات.
صحيح أن هذه الصدمة في الأرقام لم تؤثر قط في يقيني أن العلم عبارة عن حقائق مبنية على أسس يصعب التلاعب بها، وكان الإيمان، أن ما نشاهده من تجاوزات علمية في العرض الصحفي لموضوع ذات أصول علمية، يعود جزء منه للجانب التجاري الذي تحرص كافة المنظمات العلمية لمواجهته. ففي أميركا مثلا لا تستطيع شركة أدوية أن تتحدث عن نتائج سحرية لدواء ما دون موافقة الجهات المختصة، وتأكيدها على أن هذه حقيقة مثبتة علميا تجاوزت كل التجارب السريرية الحقيقية، بل هناك تمسك برصد الأضرار الجانبية وإحاطة المريض والأطباء بها قبل إجازة هذا العلاج أو ذاك، وعلى هذا النهج صارت معظم دول العالم ـ إلا من رحم ربي ـ وهذه ليس لديها بحث علمي أو أدوية أساسا، بل هي وعاء تجارب لأدوية العالم.
إلا أن جائحة كورونا استطاعت ـ بعون الله وبحمده ـ تغيير هذه النظرة، فقد قضت على آخر شيء دنيوي من صنع الإنسان أثق به، فإن كنا قد تجاوزنا الفشل العالمي المزلزل في التعامل مع جائحة أفقدتنا الأهل والأحبة، واحدا تلو الآخر، وعشنا في ظل إرهاصاتها معاناة الإصابة المتكررة، ومعاناة المنع، مما زاد من الأمراض النفسية في معظم مجتمعات المعمورة، وبررنا فشل التعامل مع الجائحة، إلى ضعف الاستثمار في مجال البحث العلمي، وأن كورونا أظهرت عوار أولويات الإنفاق في النظام العالمي ما قبل كورونا، كما بررنا التأخر في التوصل لعلاج ولقاحات، إلا أن نفس الأسباب وزدنا عليها عوامل المفاجأة التي أصابت جل العالم. لكن بعد أكثر من عامين، وبعد الأحاديث عن لقاحات متعددة، كلها لا تمنع الإصابة بالوباء، لكنها تقلل من مخاطره فقط، وهو ما تجاوزناه وحمدنا الله على ما وصلنا إليه.
ودخلنا مرحلة من الوعود الجديدة بأن سرعة عملية التطعيم ستقلل من مخاطر المرض مستقبلا، وتبدأ حالة التفاؤل في الزيادة، ونتمنى أن تسرع المصانع الخطى وتنتج ما يكفي العالم أجمع، وفق ما أعلنوه في بداية الأزمة من تكافل عالمي، لكن الغريب أن الدول الغنية كالعادة استغلت جشع منظومة الدواء العالمي، وعملت على أن تكون الأولوية للتطعيم في الدول الغنية، لا الأكثر تضررا، ليكون الرد العادل على هذا التوزيع غير العادل، المتحور الجديد من كورونا “أوميكرون”، الذي تجلَّى كاعتراض إفريقي على الإهمال العالمي لهذه القارة الفقيرة، التي تعد أقل القارات في العالم تطعيما، لذا خرج منها متحور جديد شهد إشكالا علميا كبيرا، سواء في قدرة اللقاحات على مواجهته أو مدى قوته وتأثيراته الطويلة الأمد، لتخرج علينا البيانات العلمية لتفقدنا الثقة فيما كنا نعتقد أنها حقائق علمية. فالعلماء، بعد أكثر من عامين من التعاطي مع الوباء ومتحوراته، لا يزالون يتجاهلون عن عمد نقاط بهدف الربح التجاري.
فهذه الشركة تعلن أن لقاحاتها فعالة مع المتحور الجديد، والصحة العالمية تقول بأن أعراضه خفيفة، لكن اللقاحات لا تستطيع مواجهته، مما يخلق مخاوف من تحوراته المستقبلية، وشركة أخرى تؤكد ذلك وتقول إنها تعمل على لقاحات خاصة به، بل إن معظم الشركات عاملت الدول الإفريقية التي ظهر بها المتحور الجديد كحقول تجارب سريرية، لا لتعالج المرضى لكنها لتصنع لقاحا أو دواء يسهم في حماية الأغنياء حول العالم، وتناسى الجميع الشعارات التي رفعت أثناء انهيار المنظومات الصحية الأكبر في العالم في بداية الجائحة، والتي أدركت أن مواجهة الجائحة تحتاج تضافر الجهود والسعي للعمل وفق متواليات علمية تقضي على المرض في كل العالم، وإلى أن يحدث ذلك فما أزال رهينة الإصابة بفيروس، يجعلني رهينة العزل المنزلي، برغم تناولي اللقاحات والتزامي بكافة التوصيات.