علي بدوان :
في ذلك اليوم الربيعي من نيسان/أبريل 1948، تفرقت أسرتنا المجتمعة، وبقي منها البعض في مدينة حيفا وفي طولكرم وجنين ونابلس. بينما كانت فلسطين ترزح تحت نيران عصابات (الهاجاناه)، ووحدات (البالماخ) التابعتين للعصابات الصهيونية، وبدعمٍ كامل من قوات الانتداب البريطاني التي كانت تستعد لتسليم فلسطين للحركة الصهيونية على طبقٍ من ذهب.
في سيرة مُكتظة من التداخلات والتشابكات التي وقعت، كانت نكبة فلسطين الضحية، وقد تناسلت أصلًا من رحم شعبٍ ما زال منذ أزل التاريخ صاحب الأرض والماء والحجر والهواء، من العصر الحديدي والبرونزي، والعصر الديفوني والكمبري والبريكامبري، من عهد الكنعانيين وسليمان وداود والعرب العاربة والبائدة والقيس واليمن .
أتت عائلتنا من ذلك العالم السرمدي اللامنتهي وقد أعطتنا فلسطين قبل القدوم القسري للجزء الثاني من وطننا السوري جينة من جيناتها. أخذنا منها الهواء والماء والتربة والرائحة الشذيّة, تخالها المُسكُ والعنبر والعقيق. وأعطتنا سر الوجود وإكسير الحياة والبلسم الشافي في مأزقٍ ازدادت عددًا وما نقصت عبر مسيرتنا من يوم النكبة وإلى الآن.
غادرت عائلة والدي، وعائلة عمي عبد الكريم مدينة حيفا، ووادي النسناس، ووادي الصليب، وشارع الناصرة، وساحة الجرينة.. باتجاه مناطق مختلفة في شمال الضفة الغربية، إلى عتيل وعزون وغيرهما، وباتجاه عمَّان ثم دمشق على أمل الزيارة القصيرة حتى تنتهي الأحداث وتهدأ في فلسطين، مع أصدقاء من مدينة دمشق كانوا يعملون في مدينة حيفا، ثم العودة للوطن والبلاد.
وعند المغادرة، أقصد مغادرة أسرتنا وأسرة عمي وزوجته الدمشقية من عائلة (حوارنة)، اختفت مدينة حيفا، وكرملها، وبحرها، وراء الشجيرات العشوائية المُنتشرة في تلك التلال الطبيعة الخلّابة، لتعود والدتي بعدها بسنوات طويلة لمدينة حيفا في أول زيارة عام 1971 بتصريحٍ خاص، كي تزور عائلتها ووالدها وأمها وأشقاءها، بعد فراقٍ استدام مع السنوات من العام 1948 إلى العام 1971.
غادرت فلسطين بعدها، لتعود لدمشق قسرًا، لكنها عادت تحمل منها للشام بُقجة من الزعتر البري الذي جمعته من هناك، من جبل الكرمل. وهكذا كان عشبة الزعتر البري تنمو في بساتين مخيم اليرموك، وقد جاءت لدمشق محمولة بيد أبناء فلسطين.
حقيقة، في منافي اللجوء والشتات والنكبة، تزدادُ اللعنة، وتزدادُ وطأتها إذا فُقدت القدرة على سرد قصّة اللاجئ الفلسطيني في فلسطين ودياسبورا المنافي والشتات. وعلى الإلمام بمركّبات حياته السياسيَّة والاجتماعيَّة بعد عقود طويلة من عمر النكبة.
نحن من عائلة فلسطين، العائلة الكبيرة التي تجمع كل أهل فلسطين، عائلة من تلك الشجرة التي أُمرَ الأنبياء بعدم الاقتراب منها, لكن البعض يعمل وما زال من أجل قتلها بالحال بالجفاف واليباس والتنكيل، ومع هذا فما زلت رغم الشتات والهيام في القفار وعلى قوس المعمورة وبحارها المالحة، ذات أوراقٍ خضراء يانعة.
وكما قال أحدهم أيضًا: إذا كان أحد الروائيين الروس قد قال "إنَّ حياة أي فرد من عامَّة الشعب (ناهيك عن مماته..!) يُمكن لها أن تكون قصَّة عظيمة إذا رويت بطريقة جيِّدة، فإنَّ أعظم عُقد العيش ولحظات الملاحم يمكن لها أن تُنسى وتصدأ، إذا تُركت للحكّائين الرديئين وأهل الاقتباس".
هنا، لا تزال المعادلة التي ابتدعها الروائيّ الفلسطينيّ جبرا إبراهيم جبرا في روايته "السفينة" قابلة للتحقق عبر مختلف الأزمنة، وإن استلزم الأمر (منذ البداية) تعديلًا في بنيانها اللغويّ. الفلسطينيون كلُّهم شعراء، لا بالفطرة، بل بالاكتساب. كان السرّ، حسب المعادلة، هو الجمع بين جمال الطبيعة والمأساة.