د. رجب بن علي العويسي:
يطرح واقع المنصَّات التواصلية وأدوار التأثير المتبادلة أحيانا أو المتقاطعة في أحيان أخرى مع دور الباحث العلمي والأكاديمي، جملة من الموجهات التي يجب أن تعمل عليها المؤسسات التعليمية الأكاديمية والجامعات ومراكز البحوث العلمية في سبيل بناء أطر تكاملية توظف المعرفة الكونية لبناء رصيد فكري ومهني رصين، يستفيد منه الباحثون في استجلاء الحقيقة، ومزيد من التعمق والفهم في إنتاج حلول ومستلزمات الواقع، خصوصا في ظل ما تتميز به منصَّات التواصل الاجتماعي من ممكنات تسويقية وترويجية، وامتلاكها خاصية الانتشار السريع والترويج الذكي الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان، بما تفرضه هذه المعطيات من دور محوري للباحث العلمي والأكاديمي في الاستفادة القصوى من هذه الفرص، وإعادة إنتاجها بطريقة تضمن قدرتها على هندسة الواقع الاجتماعي والإنساني، وإحداث ثورة تأثير في المعرفة القادمة، وخلق مسار جديد يتجاوز حدود المعرفة الذاتية، أو المكتبات التقليدية وقاعة التدريس إلى التأثير الإيجابي في محيطه الاجتماعي والعالمي وإطاره الكوني، بما يفتحه من مدارك، ويؤسسه من فرص، ويتيحه من محطات لإعادة التأمل في الممارسة البحثية، وتشخيصها وتطويرها، والتفكير في أدوات أخرى أكثر عمقا وسلاسة ومهنية واحتواء وقربا من اهتمامات المجتمع البحثي ذاته، للوصول إلى إنتاج علمي يفوق التوقعات، ويتجاوز السطحيات والظواهر الصوتية، فيصحّح ما علق في الأذهان من أفكار، باتت بفعل انسحاب الباحث العلمي والأكاديمي من ميدان المنافسة العلمية، فرصة لدخول مشاهير الغفلة في ميدان السباق وعرصات المنافسة.
وعلى الرغم من أنها منافسة غير متكافئة في محتواها العلمي، إلا أن هذا الانسحاب للباحثين والأكاديميين وذوي الاختصاص أعطى الباحثين عن الشهرة فرصة الولوج للعالم الافتراضي، والتأثير في ثقافة الشباب وقناعاته في ظل التواجد الواسع للشباب في هذه المنصَّات، وهو ما أضر بالبحث العلمي وجهود الباحث الأكاديمي، في اتساع فحوة الواقع التي يعيشها ليغرد خارج حدود المنافسة، وانعكس ذلك بالسلب على قناعة مجتمع الإنترنت والفضاءات المفتوحة نحو الباحثين والأكاديميين والصورة القاتمة التي ولَّدتها في كون عملهم لا يتجاوز محركات البحث الضيقة، والمعرفة المختزلة التي يتجه إليها المتخصصون، ومن يعنيهم شأن البحث العلمي من حملة الدكتوراه والماجستير أو في الترقيات العلمية من أساتذة الجامعات، لذلك فهو ـ في نظر المجتمع الرقمي ـ يعيش حالة الاستهلاكية لذاته، والشعور بأنه لا يمتلك الوقت والمال لإنجاز بحوثه، والتبريرات غير المقنعة التي يضعها أمام هذا الانكفاء الذي يعيشه، مكررا ذاته، غير قادر على إقناع جيل الشباب بالتغيير وصناعة القوة، وإنتاج المعرفة التي يحتاجها العالم اليوم في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية، وما جائحة كورونا (كوفيد19) والمتحورات الأخرى علينا ببعيد، ليظل الباحث العلمي صريع الأنا والأنانية، والذاتية والمصالح الشخصية، والنظرة التشاؤمية التي أنتجت في المقابل ثقافة مضادة باتت تلقي بظلالها على هُوية منصَّات التواصل الاجتماعي.
وبالتالي كيف يحقق الباحث العلمي معادلة التوازن في قراءة معطيات هذا التأثير، ومتطلبات الدور القادم، ويوظفه لصالح، في ظل مشتركات المعرفة التي يقدمها كل منها، والنموذج العملي الذي صنعه في محيطه، في ظل مجتمع معرفي يسعى للتنافسية، ويبني نمط نجاحه على كفاءة عمليات التسويق، وحسن إدارة الأدوات المعرفية، وتوظيفها في صالح البناء الفكري الرصين، الذي يتفوق فيه الباحث العلمي والأكاديمي على غيره، بحيث يستند في نتاجه العلمي إلى تنوع الشواهد وكفاءة الدلائل، وتعدد الخيارات، والابتكارية في البدائل المطروحة، وجاهزية السيناريوهات، وخطط العمل، والخطط البديلة، وقوة المنهجية العلمية التي يلتزمها في قواعد عمله، لتصبح هذه الميزة مساحة أمان في صالح المعرفة العلمية الحقة، والمحتوى العلمي الرصين في مواجهة الاتجاهات الفكرية السلبية التي بدت تنتهجها المنصَّات التواصلية والشحنات السلبية للمعلبات الفارغة التي باتت تلقيها في قناعات الشباب وأفكارهم، وارتفاع ضريبة الاستخفاف المعرفي فيها، وتدني مستوى الرصانة العلمية في محتواها، حتى أصبحت مساحة واسعة للإشاعة، في فراغ المحتوى، وخداع المظاهر، والمنافسات العارية على حساب الجسد والقِيَم والأخلاق والهُوية، التي شوهت صورة هذه المنصَّات، واستدعت في الوقت نفسه حضورا أكثر فاعلية للباحثين العلميين والأكاديميين وغيرهم من صناع الكلمة الطيبة، ومنتجي المعرفة الأصيلة، ذلك أن اختفاء هذه العناصر ـ أي الباحث العلمي والأكاديمي ومن في شاكلتهم ـ من المنصَّات التواصلية، واقتصاد دورهم على المتابعة فحسب، وانحسار أدائهم في الردود السطحية ودون إثراء هذه المنصَّات بالأفكار العلمية والبحوث العملية، والدراسات المعمقة، واستطلاعات الرأي، ونتائج مختبرات التحليل والإحصاء، والذي أصبح رغم جهود مؤسسات التعليم، يفتقد لمهارات التحليل، وإدارة المحتوى، والممكنات التي ترسم له طريق القوة، وفرص مقارعة التحدي، وإنتاج الحلول، الممكنة، بما أسهم في تعطيل فرص البحث والإنتاج المعرفي، وأخمد ثورة الباحث العلمي وحماسه المتقد عندما وجد بأن الأنظار تتجه إلى مشاهير الغفلة، وأن بروز فقهاء الترويج، ومشاهير المساحيق التجميلية في الشاشات الفضائية والمنصَّات التواصلية كان مقدما على حساب العلماء وأساتذة الجامعات والباحثين العلميين وذوي الاختصاص، وأصحاب الخبرة والمعرفة والتجارب.
إن مسؤولية الباحث العلمي والأكاديمي جدية المبادرة في الوقوف على مقتضيات الواقع، وإعادة إنتاجه، وتصحيح حالة الانحراف التي باتت تشوه صورة البحث العلمي في مستقبل التنمية، بحيث يعمل على خفض درجة التباينات، وإعادة ضبطها وتقنينها، بموجهات واضحة وأسس دقيقه تراعي كل الاحتمالات الممكنة، وإدماج المنصَّات الاجتماعية في تفاصيل البحث العلمي وأولوياته، في ظل ما يبرزه من رؤية الواقع، أو يقدمه من فكرة أصيلة، وممارسة رصينة، ومنتج علمي مرّ بالمزيد من التمحيص والتقنين والاختصار والدقة حتى أصبحت المعلومة التي يقدمها، تتسم بوضوح المعني وعمق الفكرة وقوة الأسلوب مع سهولة القراءة وسرعة الرد، وشوق الرغبة بالمتابعة، والوقوف على ما تحمله رسالة الباحث العلمي من تشويق وإثارة فكرية، بالشكل الذي يسهم في إزالة هاجس التباعد بين ما تتصف به هذه المنصَّات من سرعة التجديد في المعرفة والشيوع والاتساع والانتشار، وما تتسم به البحوث العلمية من حاجتها لمزيد من التأطير والمنهجية والوقت الذي يستهلك جهد الباحث، الأمر الذي يغاير ما تدعو إليه هذه المنصَّات من فرص التغيير المستمر، بما يؤكد أهمية إعادة النظر في المسار العلمي والبحثي الذي يلتزمه الباحث العلمي والأكاديمي مع المحافظة على هُويته والمعايير والمرتكزات التي يعتمد عليها، بحيث يطرح فيها المحتوى العلمي والبحثي والمنهجي الذي يقدمه باستخدام عمليات التحليل والإحصاء واستطلاعات الرأي والمسوحات الدورية والتشخيص المستمر للحالة، بما يسهم في تحديد اتجاهات أفراد المجتمع، وقياس الرأي العام، وتوفير الحلول والبدائل لإدارة معطيات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والفكري.
أخيرا، فإن تحقيق أدوار تأثير إيجابية متبادلة، والحدَّ من التقاطعات الحاصلة في طبيعة دور كل منها، يستدعي اليوم قراءة جدية لسياسات البحث العلمي والتشريعات والصلاحيات والحوافز المقدمة للباحث العلمي والأكاديمي، وتعزيز فرص الاستفادة من الإنتاج العلمي في صناعة القرار الوطني، وبلورة استراتيجيات التنمية وبناء حلقاتها القادمة، بالشكل الذي يؤدي إلى تفعيل خطوط التأثير التي يمتلكها الباحث العلمي والأكاديمي، وحضور الثقة والأصالة المعرفية والعلمية التي تتيح له فرصة نجاح أقوى في المجتمع، بما يعني مزيدا من حسن الاستثمار الأمثل لهذه المنصَّات، ومزيدا من المهنية التي تؤسس لبناء مجتمع الوعي، وفي الوقت نفسه امتلاك الباحث العلمي والأكاديمي للممكنات والقدرات الشخصية والمهنية والأدائية القادرة على الاستفادة من استحقاقات طبيعة الرسالة التي يؤديها، والدور الذي يمارسه، بحيث يعكس اهتمامه مدى الثقة الذي يمتلكها في سبيل المحافظة على معادلة القوة والتأثير الإيجابي فاعلة، في إعادة هُوية هذه المنصَّات، آخذا في للاعتبار مستوى الجاهزية الأدائية، والتمكين الممنوح له، ومستوى استيعابه لجديد التقنية وكفاءة استخدام هذه المنصَّات، وحس المبادرة لديه، الأمر الذي يستطيع من خلاله أن ينقل المحتوى العلمي والمعرفي والمنتج الفكري والبحثي من كونه مادة خاما مجردة إلى تجسيدها في فكر المجتمع وقناعات أبنائه، وإدماجها في تفاصيل الممارسة البحثية والعلمية وخطوات إنجازها القادمة. ويبقى على الباحث العلمي والأكاديمي اليوم مسؤولية إتقان لغة التعامل مع هذه المنصَّات، وتعظيم فرص الاستفادة منها، فلغة الانسحاب والانتظار التي يمارسها الباحث العلمي والأكاديمي لم تعد اليوم ذات قيمة أمام تسارع دور مشاهير الغفلة والمؤثرين السطحيين في قناعات الشباب حول واقعهم المليء بالتناقضات والأحداث.