د. رجب بن علي العويسي:
حرصت السلطنة منذ عقود النهضة الحديثة على تعزيز دور القطاع الخاص، وإيجاد بنية مؤسسية وتشريعية يستطيع أن يمارس من خلالها دوره في منظومة التطوير والبناء الوطني، وكان للرعاية السامية للمغفور له بإذن الله تعالى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ لهذا القطاع والتوجيهات المستمرة لتطويره، ودعوته لأبناء عُمان والشباب منهم بشكل خاص إلى الانخراط في سوق العمل وعدم الترفع عن مهن الأجداد والآباء، مع الاستمرار في تطوير وعصرنة هذه المهن بما يتكيف مع طبيعة التحول ويحقق فرص الجودة والمنافسة والإنتاجية، أثرها الكبير في انخراط الشباب العماني في هذا القطاع، وبدء مرحلة جديدة من العمل الوطني في تثبيت قواعد وأسس أكثر نضجا ومهنية لنقل هذا القطاع من دور الاستهلاك والاعتماد على دعم الحكومة إلى الاعتماد على النفس، وإثبات بصمة حضور له في الواقع، حيث تشير بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن عدد المشتغلين في القطاع الخاص والعائلي من العمانيين من مختلف الفئات العمرية في احصائيات 2020 بلغ (254,754) من الجنسين مقارنة بـ(1,400,888) من غير العمانيين وبنسبة بلغت (18%) من إجمالي عدد العاملين في القطاع الخاص.
كما ارتبط بانخراط الشباب العماني في هذا القطاع، واستيعابه لعدد أكبر منه في العقود الأخيرة عمليات تطوير وتحديث مستمرة محاولة من الحكومة في سد فجوة التباعد الحاصلة بين القطاعين الحكومي والخاص، وتوطين هذا القطاع عبر استمرار تقديم الحوافز الداعمة لبقاء الشباب العماني في القطاع الخاص واستفادته من الميزات التنافسية التي تحققت من حيث الرواتب والأجور وساعات العمل والإجازات الأسبوعية والسنوية، وتسهيل عمليات التنقل وتوفير برامج التدريب وغيرها من المعطيات التي باتت ترسم البسمة للداخلين في هذا القطاع، وعلى نهج التطوير والتحديث جاءت رؤية حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ في سبيل الانتقال بعُمان المستقبل إلى طموحات أبنائها وتوقعاتهم، وتعزيز توجُّه الحكومة نحو تحقيق الاستدامة المالية والتنويع الاقتصادي وخفض المديونيات، وهي موجهات جاء خطاب عُمان المستقبل إلى التأكيد عليها بقوله: "إننا إذ نُدرك أهمية قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وقطاع ريادة الأعمال، لا سيما المشاريع التي تقوم على الابتكار والذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، وتدريب الشباب وتمكينهم؛ للاستفادة من الفرص التي يتيحها هذا القطاعُ الحيوي".
غير أن انحراف دور القطاع الخاص عن النهج الذي رسمته القيادة له، الناتج عن قصور في دور الجهات المعنيَّة بتبنِّي سياسات واضحة تضمن الرقابة والمتابعة الكفؤة، والتشخيص المستمر والمسوحات النوعية المعمقة لحجم التغيير الذي يؤسسه على أرض الواقع، ومع استمرار اعتماده على الحكومة، والتحديات المالية الناتجة عن جائحة كورونا (كوفيد19) وغيرها كثير اتجه القطاع إلى مبررات التنازل عن القوة العاملة الوطنية كأسهل الخيارات في تقديره في الحدِّ من حالات الإفلاس أو مواجهة معطيات هذه الجائحة، ما نتج عنه في المقابل ارتفاع عدد المواطنين المسرحين من القطاع الخاص، والذي كما يشير البعض فيه إلى بعض الممارسات الحكومية والقوانين التي أعطت الشركات والقطاع الخاص فرص اتخاذ مثل هذه الإجراءات بطريقة ضمنية أو صريحة من خلال عقود العمل المؤقتة، والأجور الشهرية، كل ذلك وغيره يأتي في ظل مرحلة صعبة بما حملته من تحديات اقتصادية وظروف معيشية على حياة المواطن في ظل تداعيات الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة في تنفيذ اجندتها، خصوصا ما يتعلق منها برفع الدعم عن الكهرباء والماء والوقود، وفرض ضريبة القيمة المضافة، ناهيك عن ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل، والمسرحين من الشركات، والديون البنكية وعقدة الإجراءات ورفع رسوم المشاريع التي باتت ترهق كاهل المواطنين والشباب، كل ذلك وغيره يضع الحكومة أمام مرحلة جدية من العمل في إعادة هيكلة هذه المنظومة.
ومع ما أشرنا إليه، فإن هذه المعطيات لا تبرر تنازل القطاع الخاص عن استحقاقات المرحلة، بل إن إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، والدمج الحاصل للوحدات الحكومية أفرز وجود زيادة وفائض في الكادر الوطني العامل في هذا القطاع، الأمر الذي يضع عملية التوظيف في القطاع الحكومي المتشبع غير قادر على استيعاب كل المخرجات في السنوات القادمة، بما يرجع المسألة مرة أخرى إلى القطاع الخاص الذي عليه أن يتحمل مسؤوليته ويفي بواجباته، وأن يكون على مستوى من الثقة التي أولتها القيادة الحكيمة له، وأن يمارس دورا احترافيا يضعه أمام استحقاقات المستقبل، ويصنع لاستيعابه للقوى العاملة الوطنية حضورا وثقة في الواقع الاجتماعي، بحيث يحقق طموحات الحكومة في أن يمارس دور الند والشريك في استيعاب القوى العاملة الوطنية والمحافظة على استقرارها الوظيفي والمهني.
وبالتالي أن يثبت القطاع الخاص للحكومة والمواطنين على حد سواء على أنه أهل للثقة، ويعمل بجدية وإخلاص على إنتاج الوظائف وصناعة الفرص، ويبذل كل الجهد من أجل استمرارية انخراط الشباب العماني فيه، وكسب ثقة الشباب العماني في قدرته على رسم ملامح مضيئة للمرحلة القادمة، وأن قدرته على تجاوز التحديات تضعه أمام شراكة حقيقية لا يستطيع أن يتخلى فيها عن دعم الشباب العماني له، وأن عليه في المقابل أن يتخذ كل السبل والأطر التي تعزز من مسار التعمين وتسوّق للكفاءة العمانية القادرة على العطاء في كل ميادين العمل والإنتاج، وتبقى الثقة والحوافز والممكنات، واحترام المسؤوليات، وتقدير الكفاءة العمانية، وخلق روح نضالية عالية لدى الشباب العماني في الاستمرار في هذا القطاع، بالإضافة إلى وضوح استراتيجيات العمل وأدوات القياس، ومعايير الأداء التي تحفظ حقوق المواطن، مرتكزات يجب على القطاع الخاص أن يعمل على تحقيقها في قادم الوقت، ويدرك في المقابل أهميتها في قدرته على الثبات والاستمرارية.
وبالتالي تبقى مسؤولية القطاع الخاص اليوم أكثر من أي مضى في المحافظة على المكاسب الوطنية المتحققة لهذا القطاع، واستمرار بناء الثقة في قدرته على تجاوز التحديات، والاعتماد عليه كخيار استراتيجي للمحافظة على الكفاءة العمانية في طور التطوير والتجديد والنمو المستمر لها، بما يعني أن جعل القطاع الخاص بيئة آمنة وأكثر استقرارا للشباب العماني بحاجة إلى جملة من الموجِّهات التي على القطاع الخاص أن يتقنها وأن يستوعبها، وفق بيئة إنسانية تراعي إنسانية الإنسان وتحفظ له حقوقه، متناغمة مع كل المعايير العالمية، محققة أفضل مستويات الأمان الوظيفي للموظف والحس المهني المسؤول، يرافق ذلك التزام اخلاقي نحو المحافظة على أعلى سقف التوقعات والمبادرات لديه، وتمكينه من إتقان المهارات الأساسية والناعمة وتقوية حضورها لديه، وعبر لغة عمل متجددة في أساليبها، وروح تواصلية ممتدة، معززة بأجور تنافسية، تتيح مزيدا من المهنية والإخلاص، والإنتاجية والمنافسة، آخذة في الاعتبار كل الظروف والمعطيات والمتغيرات التي يعيشها الموظف للحدِّ من تأثيرها على أدائه، منطلقة من قواعد سلوك مهنية، تراعي إدارة المشاعر، وتحفظ توازن الموظف الانفعالي وصحته النفسية، وقدرا مناسبا من الصلاحيات والتمكين والثقة لضمان امتلاكه المهارات اللازمة في الاستجابة لمقتضيات التحوُّل في الوظائف، والأريحية في التعاطي مع متطلبات التغيير في أنظمة العمل والبرامج وأدوات الممارسة المهنية، ومزيد من فرص التعلم الذاتي، والتدريب على رأس العمل، والاستفادة من الخبرات التراكمية بما يعزز من فرص الممارسة التأملية التي تستفيد من المواقف والظروف المتكررة والأحداث الحاصلة في المؤسسة، لما من شأنه أن يسهم في إيجاد روح الولاء والانتماء المؤسسي، في ظل استشعار الجميع للمسؤولية الذاتية والرقابة الشخصية والمواطنة الوظيفية، واستنهاض مساحة الذوق والرقي الفكري، واستنطاق القِيَم والأخلاقيات في تنفيذ استراتيجيات العمل الداخلية بالمؤسسة.
أخيرا، لم تعد هذه المرتكزات اليوم حالة وقتية ترتبط بمزاجيات القائمين على هذا القطاع والرؤساء التنفيذيين للشركات، بل خيار استراتيجي يضمن بقاء مساحة القوة لهذا القطاع قائمة، قادرة على الثبات في مواجهة عواصف التغيير، وبما يعيد إنتاج واقعه في ظل حجم السقطات المتكررة التي بدأ يرصدها واقع العمل في القطاع الخاص، والتشويه الممنهج له والذي بدأ يعيد القطاع إلى ثمانينيات القرن الماضي، ويبقى التحدي الأكبر في كيفية إقناع المواطنين والشباب العماني بالعودة من جديد للانخراط في هذا القطاع، فإن قدرة القطاع الخاص على إثبات بصمة حضور له، واستمرار ثقة المواطن فيه، الضامن الحقيقي لاستدامة هذا القطاع وقدرته على التعايش مع الظروف والخروج من أزماته المتكررة، وهو الأمر الذي يجب أن يضعه القطاع الخاص في الحسبان، إذ إن نجاحه مرهون بحجم ثقة المجتمع فيه والقناعة التي يوليها لهذا القطاع في بناء عُمان المستقبل، ذلك أن تجديد الثقة، وإعادة هيكلة الواقع الاقتصادي، وإعادة الاعتبار للمواطن المسح قسريا من عمله، ومراجعة سياسة التوظيف والتشغيل، وموقع الكفاءة العمانية في سوق العمل والقطاع الخاص في ظل إغراقه بالتجارة المستترة والعمالة الوافدة، موجهات يجب أن يثبت خلالها القطاع الخاص قدرته على الوفاء بالتزاماته، وتحسين أوضاعه حتى يكتب له الاستمرارية والمنافسة.