د. جمال عبد العزيز أحمد:
سبق أن ذكرنا مفهوم الوقف الممنوع في مقال سابق، وعرَّفنا ببعض القواعد النحوية الحاكمة لقضايا الوقف الممنوع، ووعدنا أن نطبق تلك القواعد في هذا الوقف الممنوع على سورة النحل؛ بوصفها أكثرَ السورِ التي ورد فيها ذلك النوع من الوقف، حيث ورد تسعَ مرات كاملة إجمالًا، وعشر مرات تفصيلا، ونبدأ بأولى تلك الآيات التي فيها الوقف الممنوع في سورة النحل، نظرًا، وتحليلا نحويًّا، ودلاليا، ونبيِّن قاعدته النحوية، وهي قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (النحل 24 ـ 25).
في هاتين الآيتين (24 و25) وقفان ممنوعان؛ الأول منهما على كلمة: (ربكم)، والثاني منهما على كلمة:(القيامة).
فعلامة الوقف موجودة في الوقف الأول على كلمة (ربكم) التي هي فاعل الفعل (أنزل)، وهي واردة في إطار جملة الشرط(ماذا أنزل ربكم)، حيث إن الأسلوب كله أسلوب شرط، مكون من أداة الشرط (إذا) وهي أداة شرط غير جازمة، وبعدها جملة الشرط المضافة إلى الظرف (إذا) (قيل لهم..)، وجملة (قيل لهم) في محل جر مضافة إلى الظرف، وجملة:(ماذا أنزل ربكم) في محل رفع نائب فاعل لأن الفعل جاء مبنيًا لما لم يسمَّ فاعله، وجملة (قالوا أساطير الأولين) جواب الشرط لا محل له من الإعراب لاختلال الشرطين: الأداة غير جازمة، والجواب لم يقترن بالفاء، وأساطير خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي، أو تكون أساطير مبتدأ يحمل الوصف في نفسه أي أساطير كاذبة، والخبر محذوف أي: اكتتبها وزعمها واختلقها، وأمضاها، والوجه الأول أولى، وتكون جملة مقول القول (أساطير الأولين) هي جملة اسمية في محل نصب، ومقول القول هو جواب الشرط، وسبق أن ذكرنا أن من قواعد الوقف المرتبطة بالنحو أنه لا يوقف على جملة فعل الشرط دون الجواب، لأن المعنى بهذا الوقف لا يتمُّ، ولا يكتمل، والوقوف القرآنية مبنية على كمال المعاني، وتمام المباني في كل الوقفات القرآنية: الممنوعة، والجائزة، والحسنة، والكافية، ونحوها، فقد اجتهد العلماء علماءُ الوقف والابتداء اجتهادا كبيرا في تفسير الوقوف، حيث كان لكلٍّ طريقٌ، وتفرد، ومشرب، والجميع يحكمه المعنى وتمامه، وكذا سلامة الجوانب العقدية، والأحكام الشرعية، وترسيخ الجوانب التربوية، لكنهم اختلفت وقفاتهم، وكلها تثري المعنى، وتضفي عليه زيادات جليلة، ومعاني جديدة، ودلالات فريدة، وإن المرء ليتعجب من تلكم الجهود المباركة التي وقفت وقفات متعددة في الآية الواحدة، ولعل كتبهم وتوسعها لتدل على ذلك، وتشير إليه، وتشي بهذه الجهود الرائعة في النظر إلى كتاب الله والتباري والتنافس في تفسير وقفاته وابتداءاته، وما تنطوي عليه من دلالات.
فالوقف الأول هنا خلاصته أنه لا يوقف على جملة الشرط حتى تستوفي جملة الجواب، وأن المعنى بهما معا يتم وتنكشف جوانبه، وتظهر أوجه الإعجاز فيه، رغم تعدد وجهات النظر في تفسيره، فقد أدت العلامة (لا) فوق كلمة (ربكم) هدفها وحققت المقصود منها، ووقفتنا على تلك القاعدة النحوية التي ربطت نوع الوقف، وبيَّنت سببَه، ولم كان وقفًا ممنوعا، وعلة عدم الوقف وتنصيص العلماء عليه.
والوقف الثاني في الآية الثانية على كلمة (يوم القيامة) التي هي مضافة إلى ما قبلها (يوم)، وتبيِّن وقتَ الحسابِ، وحمل الأوزار، حيث الحسرة الكاملة، والأسى الحقيقي من حمل لكل المعاصي، والأوزار الكاملة الخاصة بهم:(ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة)، فلو وقفتَ هنا (على القيامة) لكان المعنى قلقا، ويفيد أنهم لا يحملون إلا أوزارهم فقط، ولكنْ، جاءت العلامة (لا) لتبين أنهم لا يحملون أوزارهم هم وحدهم فقط، ولكنْ يحملون كذلك أوزار من يضلونهم بغير علم من المضلَّلين الذين وثقوا فيهم، وفي سيرتهم، ولا يعلمون أنهم يُضِلُونهم، فأضافت بُعْدًا ثانيًا خطيرًا قد لا يكون الضالون على ذِكْرٍ منه، وأنهم يحملون أوزارهم فقط، ولكنَّ القرآن الكريم بتلك العلامة (لا) بيَّن أمرًا شديد الخطورة، وهو أن الضال يحمل وزره، وَوِزْرَ مَنْ أضله، أيْ أن وزره مضاعفًا، وهو أمر يبعث على الخوف، والوجل، والتحسر على ما فات من إضلال، وفجور، وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، فالواو عاطفة، ما عطف مفردات، أي: أوزارهم وأوزار من أضلوهم، وإما من قبيل عطف الجمل، بمعنى أنهم يحملون أوزارهم، ويحملون كذلك من أوزار الذين يضلونهم بغير علم، والعجيب أن (من) للتبعيض، رحمة من الله بهم، أيْ ويحملون من أوزار من يضلونهم، أي بعضها، وكذلك جاء الفعل (يضلونهم) مضارعًا، وقد يكونون ماتوا وشبِعوا موتًا، لكنَّ آثارهم، وكتبهم، وآراءهم، وأفكارهم، وأعمالهم، وإسهاماتهم الفاسدة لا تزال باقية، وكأنهم باقون أحياء؛ لأنهم لم يتبرؤوا منها في حياتهم، وكانوا يعتزُّون بها، فبقيتْ بعدهم يمضي عقابُها، ويتنامى أثرُها، وتَسْوَدُّ معهم صحائفُهم إلى يوم القيامة، والعكسُ صحيحٌ: أنهم لو كانوا صالحين، وتركوا آراءً، وإضافاتٍ، وكتبًا، وآثارًا صالحة لامتدتْ معهم كذلك بعد موتهم، ولملأتْ بالحسنات صفحاتِ كتبهم، يلقونها كاملة يوم القيامة، فالله ـ جلَّ جلاله ـ عادل حكيم، لا يظلم مثقال ذرة، ولا يظلم الناس شيئا .
فالوقف على كلمة: (القيامة) يعني ألا يقف القارئ، ويمضي في تلاوته مبيِّنا الأثر الخطير فيمن يخرج من الحياة موزورًا، وكذلك قد شارك في إيقاعِ غيرِه في الوزر، ويفسر هذا الأمر الحديثُ الشريفُ الذي رواه الإمام مسلم ـ رضي الله عنه ـ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور مَنْ تبعه، لا ينقص ذلك مِنْ أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام مَنْ تبعه لا ينقص ذلك مِنْ آثامهم شيئًا)، وتؤيده كذلك الآياتُ القرآنيةُ الأخرى، من نحو:(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ) (العنكبوت ـ 13)، وذلك بسبب أنهم أضلوهم، ودعوهم إلى الشر، وقووهم على فعله، وارتكابه، وكانوا يحملونهم على الأخذ بآرائهم، وبيان أنها الآراءُ الصائبةُ حتى ضلوا، ومضوا معهم في أوزارهم، وضلالهم، ولعلك تقرأ تلك المراجعة بين المستضعفين، والمستكبرين في سورة سبأ، وأن الله قد حكم بينهم حكمَه العادلَ دائمًا، فلم يترك مَنْ أضلوهم دونما مساءلة، وعقاب، كما لم يترك مَنْ لم يُعمِل عقله، ويحكِّم دينه، ويضيِّع فكره، وينصاع وراء الكاذبين، الأفاكين، الفاسدين، العاصين، يقول الله تعالى:(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ، قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (سبأ 31 ـ 33)، سورة سبأ، وقد أسَرَّ الفريقان الاثنان الندامة لما رأوا العذابَ، ولم يفلتْ أحدٌ من عقاب الله، لا العاصي الضال المضِلُّ غيرَه، ولا المُلغِي عقلَه المضلَّل من الناس بسبب تركه أمر نفسه لغيره يتحكم فيه، ويهزأ به، ويلعبُ به كيفما شاء، ورغب.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرةبجمهورية مصر العربية.
[email protected]