[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedaldaamy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]أ.د. محمد الدعمي[/author]
” لقد أماط غول الفساد عن وجهه القبيح الكالح على نحو تسلسلي، له بداية ولكن ليس له نهاية. وهذه هي مأساة الفساد الإداري والمالي في جميع دول العالم، لأنه إذا ما بدأ دون أن يلجم بقوة، بل ويبتر بحزم، فإنه ينتشر ويتضاعف حجمه بالانشطار السريع والخاطف حتى تكون مهمة القضاء عليه مهمة خارج حدود الممكن،”
ــــــــــــــــ

لم يحمّل حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي، المضادين للأوضاع الجديدة في عراق مابعد الغزو الأميركي (2003) عناء البحث عن المزيد من تهم الفساد الفظيعة المستشرية في العراق، فقد أعلن الرجل من تلقاء نفسه أنه تم اكتشاف آلاف العسكريين "الفضائيين" الذين أسهم وجودهم بسقوط الموصل وسواها من المدن والبلدات المتناثرة إلى الشمال من بغداد.
والحق، فإن الفطنة العراقية، بما امتازت به من روح دعابة وسرعة بديهية وتندر قاس، قد تبلورت في انتقاء الثقافة الشعبية لفظ "فضائي" لإطلاقه على أفراد غير موجودين على أرض الواقع، وإنما في سجلات صرف المرتبات والمخصصات من بين سجلات وقوائم أخرى بهدف الاستئثار بأبواب الصرف، ومنها التقاعدية! وبذلك بزت روح الظرافة العراقية الأميركي الذي انتخب لفظ "فضائيين"، الإعلام الأميركي الذي انتخب لفظ "شبحيين" أو أشباح ghostly. الطريف هو أن كاتب هذه الأسطر قد حرم من حقوقه التقاعدية بعد ربع قرن خدمة في جامعة بغداد مع إستقطاعات تقاعدية من مرتبه طوال هذه المدة.
وإذا كان االعبادي قد قام بنفسه بكشف مأساة الفضائيين في العراق، فانه قد أطلق سلسلة من تيار الكشف عن أنماط متعددة من الفضائيين المتنوعين الذين يشكلون أسماء لا وجود لأصحابها وأخرى لأموات وأخرى لأفراد غير موجودين داخل العراق، جميعها أسماء تستلم مرتبات ومخصصات ومنح وهبات ومساعدات وحصص تموينية، وجميعها كانت من "إنجازات" الحكومات التي سبقت حكومة السيد العبادي على مدى أحد عشر عاماً للأسف، أحد عشر عاماً فساد مطلق فقط.
لقد أماط غول الفساد عن وجهه القبيح الكالح على نحو تسلسلي، له بداية ولكن ليس له نهاية. وهذه هي مأساة الفساد الإداري والمالي في جميع دول العالم، لأنه إذا ما بدأ دون أن يلجم بقوة، بل ويبتر بحزم، فانه ينتشر ويتضاعف حجمه بالانشطار السريع والخاطف حتى تكون مهمة القضاء عليه مهمة خارج حدود الممكن، قد تتجاوز أجيالاً لإيقافها ومن ثم إنهائها، برغم الشعور باستحالة تحقق ذلك بسبب الخراب الذي تسببه آفة الفساد في النفوس عندما تستسيغ تلك النفوس المال الفاسد وتسوغ السحت الحرام بأية طريقة.
وإذا لم تكن هناك دولة في العالم خالية من شكل من أشكال الفساد، فإن تحوله الى ظاهرة مستشرية إنما يخرب جميع مابني من ذي قبل، في دواخل الإنسان والمجتمع عامة، بسبب طبيعة تضاعف الفساد وإعداد الفاسدين بشكل متوالية هندسية (2،4،8،16،34)، وهكذا دواليك)، وليس متوالية عددية (2،4،6،8،).
هو ينتشر كالفطر على سطح رطب، في كل مكان، فإذا ما يشعر الموظف البسيط، حتى وان كان عامل خدمة، بأن المسؤول الأكبر والرئيس الأعلى منه في السلم الوظيفي مخترق بالفساد، فان هذا الموظف الصغير، الذي دخل الوظيفة وهو "يخاف الله" سيسوغ لنفسه أفعال الفساد، أسوة بـ"الأعلى"؛ وهكذا تجده بعد حين "يبتكر" طريقة أو اسلوب للإبتزاز على سبيل إتباع خطى من سبقوه على طريق الفساد، حتى يصل الأمر الى أن المواطن الذي لايمكن أن يراجع دائرة أو مؤسسة أو شركة دون دفع رشوة، من نوع ما، للبواب وللفرّاش، للأسف.
وهكذا تنطلق دول بكاملها نحو "الفضاء"، خارج الغلاف الجوي، لتتفوق على الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في أعداد الفضائيين هناك، بلا صواريخ.
إن الفساد عصي على المعالجة، بل وحتى على الاستئصال، لأنه ينحو منحى خطير وفي كل الاتجاهات. لذا يجب أن تبقى أجهزة الدولة الرقابية مفتوحة العيون لتكبح وتقضي على أية حالة فساد، كي لا تسمح لها بالمرور لأنها ستبقى وتنتشر بسرعة فائقة، كما يجب على الأجهزة القضائية والعدلية عامة عدم الرأفة بالفاسدين حتى على أدنى المستويات، لأن من تسول له نفسه باختلاس دينار واحد، لن يتردد في إختلاس المليارات من الدنانير والدولارات فيما بعد.