سعود بن علي الحارثي:
تحتشد لقاءات وجلسات الأصدقاء والأسر والمعارف واتصالاتهم الهاتفية، هذه الأيام، بالأفكار والمبادرات التي تقترح استثمار الموسم السياحي المتميز والطقس المعتدل ونسمات الهواء العليل، لاكتشاف المزيد من المواقع والأماكن السياحية التي تزخر بها عُمان، والاستمتاع والاستجمام في شواطئها الذهبية وكثبانها الرملية وأوديتها الخصبة وجبالها الشاهقة وسهولها المنبسطة والممتدة إلى ما لا نهاية، والتخييم أو الإقامة في النزل والفنادق والشاليهات التي تتوسط الحارات والأسواق القديمة وتتوزع بين البساتين الظليلة والأفلاج التي تتدفق في سواقيها المياه العذبة الصافية، وتنتشر في السهول والجبال والقرى والمدن والمواقع الاستراتيجية... الخيارات كثيرة، والفرص عديدة، ومناطق عُمان كلها جاذبة آسرة محفزة ملهمة، تثير الإدهاش والشغف والإعجاب وتبهج النفس وتشرح القلب وتلهم الفكر، فإلى أين نتجه هذا الأسبوع؟ وأي محافظة نقصد؟ وما الولايات والمدن والقرى والمزارات السياحية التي ينبغي أن نعطيها الأولوية؟ فالزخم والثراء في كل بقعة ومكان، والوقت المتوفر لا يكفينا لزيارة واستطلاع ما نتطلع ونطمح للوصول إليه، وإمكاناتها السياحية العالية التي يتحدث عنها ويعجب بها كل من قصدها وزارها، وواقع القطاع السياحي وخدماته الهزيلة والضعيفة التي تستعصي على التطور والنماء همٌّ لا ينجلي للأسف الشديد. قبل عدة أسابيع قررنا وبصحبة عدد من الأصدقاء زيارة بعض ولايات محافظة شمال الباطنة، انطلقنا من أمام جامع "السيد طارق بن تيمور"، بمنطقة الخوض، في الساعة الـ٨ صباح الأحد الموافق 5 ديسمبر، متجهين مباشرة إلى "وادي الصرمي"، بولاية صحم، كانت السماء صافية لا كدر يظهر على صفحتها تبعث على الانشراح والسرور، والبسيطة تكتسي بأنواع وألوان شتى من الشجيرات والأعشاب البرية، وأوراق وأغصان أشجار الغاف والسمر بان عليها الارتواء والطراء واشتداد الاخضرار... بفضل الأمطار التي سقطت أخيرا، وبساتين الباطنة ومزارعها تمتد على ظهر الأرض في مشهد بديع يعبِّر عن ريف خصب، وأرض تجود بالخيرات، وتعلن عن استعدادها على توفير احتياجات العمانيين من الغذاء، متى ما أكرمت وعرف فضلها واستثمر فيها بسخاء وذكاء، وتوفرت للمزارع التقنيات والخبرات الحديثة. فمنطقة الباطنة تمتلك البحر والشاطئ والريف والجبال والأودية وقراها الخصبة، ثلاثة قطاعات اقتصادية مهمة الزراعة والأسماك والسياحة، تشكل مجتمعة ثروة وطنية هائلة ما زالت للأسف مهملة وغير مستثمرة بما يحقق غايات وأهداف التنويع في مصادر الدخل، وتعزيز الموارد ويوفر احتياجات الوطن من الغذاء ويعزز أمنه. تناثرت القرى الجميلة على ضفاف وادي الصرمي، وأطلت القلاع والحصون والحارات القديمة من بين النخيل الشامخة وأشجار الليمون والحمضيات الأخرى، وارتفعت مناسيب المياه المتدفقة بغزارة في الوادي كلما توغلنا في دواخله، وبحسب تأكيدات الصديق سليمان آل عبد السلام ـ الذي استضافنا وأكرمنا خير إكرام في منزله العامر بولاية صحم ـ فإن المياه لا تنضب في هذا الوادي طوال السنة وفي أعوام الجفاف يضعف منسوبها ولكنها لا تجف أبدا، ما جعلنا حائرين متسائلين عن الموانع والمعيقات التي تقف أمام استثمار الوادي وتطويره وتهيئته للسياحة وإمداده بالخدمات والطريق المعبد واستغلال المياه في تنفيذ مشروع زراعي رائد؟ إنها ذات الأسئلة تنفجر في كل الأمكنة والمواقع التي نزورها، في قرية "الظويهرية" التي يسمع منها خرير المياه من مناطق بعيدة دليلا على غزارته وقوة جريانه، اخترنا موقعا استراتيجيا تحف به عناصر الطبيعة الخلابة وتطل عليه بساتين القرية من أعلى الجبل، وتجري من حوله المياه العذبة النقية، لتناول القهوة العمانية وأصناف من الأكلات المتميزة التي حضرها وأحضرها وأجاد اختيارها لتناسب المكان الأخ العزيز سليمان بن خالد آل عبد السلام، في نموذج مشرف على كرم العمانيين وأصالتهم وبهجتهم بالضيف. فقد حضر لنا فيما بعد وجبة غذاء فاخرة كانت أجمل ما في هذه الرحلة، باجتماعنا مع إخوة أعزاء، فلهم منا جزيل الشكر وعظيم الامتنان. كانت إقامتنا في ليلة الاثنين بفندق "راديسون بلو صحار"، المطل على شواطئ بحر عُمان. مساء أخذنا جولة سياحية في المناطق القريبة، شملت "ميناء صحار"، ومنطقة الشاطئ، التي تقدم الكثير من المرافق والآثار واللمسات الجمالية مما يستحق الزيارة ويحقق المتعة والاستجمام، فهنا اخترنا مقهى عصريا على إطلالة بحرية لشرب القهوة، وزرنا عددا من المجمعات التجارية الحديثة. وفي جولة أخرى، أخذنا صورا تذكارية أمام قلعة "قرية فزح" بولاية لوى التي بُنيت قبل أكثر من أربعمائة عام، وتتميز بعمارتها الإسلامية، وضخامة مرافقها، وارتفاع طبقات بنائها التي تصل إلى ما يعادل خمسة أو ستة طوابق بمستوى العمارات الحديثة، وأبراجها الأربعة التي يشكل كل واحد منها ضلعا من أضلاع القلعة، ويؤكد أحد السكان الذي أقبل في نشاط وسعادة ليحيينا ويسألنا عن "الأخبار والعلوم" وعارضا علينا بكرم بالغ وسعادة غامرة استضافته لنا في منزله للعشاء أو القهوة على أقل تقدير، بأنه لم يتبقَّ من مرافق هذه القلعة الحصينة وحاراتها القديمة سوى المبنى الرئيسي، فيما تكفل الزمن والإهمال بمسح حتى الأطلال التي ما زالت تتناثر هنا وهناك حتى وقت قصير، فكلما تأخرنا في توثيق وترميم وصيانة تراثنا الحضاري وحفظ العمارة القديمة والحارات والأسواق والقلاع والبوابات والحصون فسوف يكلفنا ذلك ضياع ثروة وطنية تضاف إلى سابقاتها. وفي مداخلة له على حسابي في "الفيسبوك" تعليقا على زيارتنا لقرية "فزح" عرض الأستاذ "وليد السعدون" معلومة ثمينة جدا عن القرية، على ضوء زيارته لها كذلك قبل أسابيع قليلة، عبَّر فيها عن إعجابه بـ"رجال قرية فزح الذين حافظوا بعناية وبعلم على الموروث الشعبي في حساب الدرور، وهو نظام فلكي قديم في المنطقة يعمد إلى تقسيم أيام السنة بشكل عشري إلى «36» قسمًا، كل قسم عشرة أيام تعرف «بالدّر»، ويبدأ هذا الحساب بطلوع نجم سهيل عند منتصف شهر أغسطس من كل عام، ويُعرف كل درّ بالمجموعة العشرية التي ينتمي إليها فيقال العشر، والعشرين، والثلاثين، وهكذا إلى المائة الثانية، ثم يعاد إطلاق العشر والعشرين والثلاثين مرة أخرى. وخصوصا رجال قبيلة الريسي .لهم خبرة وعلم وتوقع في معرفة الأنواء الجوية وتقلباتها في زمن لم تكن فيه هيئة للأرصاد الجوية، ولا وجود للشبكة العنكبوتية يعرف من خلالها الناس أخبار الطقس والحسابات الفلكية والتوقيتات المختلفة، وكانت الحياة غير معلومة إلى حد كبير، كان توقع حالة الطقس وفصول السنة هو الهاجس الرئيسي لأهل البر والبحر على حد سواء"، فشكرا له على إضافته المفيدة. شملت جولتنا السياحية، صباح اليوم التالي سوق صحار القديم المطور كليا، أو المحدث مضافا عليه تصاميم جمالية تعبِّر عن مكانته التاريخية ودوره الاقتصادي الحضاري في الزمن الغابر، ما أسعدنا حقا، تأكيدات أحد أصحاب المحلات التجارية أن السوق سوف يعمل بكامل طاقته التجارية في يناير القادم، بعد سنوات من التعثر والإغلاق. من مركز ولاية صحار توجهنا مباشرة إلى وادي حيبي للتمتع والاستجمام بالقرى المتناثرة على ضفتيه والاطلاع على قلعة "حيبي" التي تقف في شموخ ومهابة، تثير الإدهاش وتحفز على طرح التساؤلات العميقة عن الماضي وكيف تمكن العمانيون من تشييد وعمارة هذه الصروح في هذه المواقع الموغلة في أعماق الجبال والأودية بتلك الوسائل والأدوات البدائية مقارنة بعصرنا؟ ومن ألهمهم تلك العمارة والتصميم بهذه البراعة والإتقان التي تجعل من زائر القلعة يقف أمام كل زاوية ونافذة ومرفق وغرفة وطابق وجزء من أجزائها يتحسسها ويعلق عليها ويعمل عقله في محاولة اكتشاف أسرارها واغراضها. إنها تقف هنا لتؤكد على حضارة وصلابة وعظمة العمانيين، لقد رممت القلعة في ٢٠٠٦، ولكن للأسف لا تتوفر أية معلومات عن تاريخ بنائها، ومن قام بذلك البناء، والمقصد والغاية من تشييدها في قرية صغيرة، ودورها العسكري والثقافي والاجتماعي، وكيف كانت طبيعة ونمط الحياة في المكان...؟ ولا توجد لوحات إرشادية تقود السائح والزائر إليها، ولا طريق معبد يوصلها بالشارع الرئيسي، ولا رسوم دخول حتى، ولا استغلال لقيمتها التاريخية والمعمارية الكبيرة واستثمار للإنفاق الباهظ على صيانتها وترميمها وتجديدها بتنظيم وإقامة الأنشطة الثقافية والترفيهية وتأسيس مقهى حديث في أروقتها لاستقطاب السياح...؟ فيا للعجب ويا لمشاعر الحزن والأسى على حال السياحة في بلادنا؟ من وادي "حيبي" دخلنا مباشرة إلى وادي "شافان"، الذي تتدفق في مجراه الرئيسي وأفرعه المياه المهدرة بغزارة حاله كحال الأودية الأخرى من شرقه وغربه، فلا سدود تحجزها، ولا مزارع نموذجية تستثمر تلك المياه، ولا قنوات تصريف تخزنها. بعد أن تجاوزنا قرية "دقال" بعدة كيلومترات استقبلنا الشارع السريع الذي قادنا مباشرة إلى "مسقط"، معلنا عن ختام هذه الرحلة الممتعة حقا، والتي طافت بنا عددا من ولايات ومناطق وأودية شمال الباطنة، وبرهنت بكل وضوح على المكانة السياحية والثروات المتنوعة التي تملكها سلطنة عمان، والفرص المهدرة والإمكانات غير المقتنصة.