د. جمال عبد العزيز أحمد:
..وخلاصة القول في هذا الوقف الممنوع: أنه من وقف قبيل العطف، وأن من أحكام هذا العطف أن المعطوف عليه لابد معه من مواصلة قراءة المعطوف، وأنه لا يُكْتَفَى بالوقف على المعطوف عليه، وإنْ كملتْ جملته هو بمعناها الجزئي، وإنما يلزم القارئَ مواصلةُ التلاوةِ، لبيان المعنى التام، والكامل، والكلي، والشامل للآية، وعدم الوقف على كلمة مَّا من شأنها إضاعة المقاصد الأساسية، والأهداف الحقيقية لفحوى، ومضمون، وغايات الآيات، فلابد من الوقف على نهاية الآية، حتى يتمَّ المعنى الكليُّ، ويتضح كاملًا غيرَ منقوص، وأن الوقف متعلق ببيان الأحكام الشرعية للأعمال الإنسانية، وأن العاصيَ لا يتحمل وزر معصيتِه فقط، بل يحمل من أوزار مَنْ أضلهم، وإِنْ كانوا لا يعلمون إضلاله، حيث كان عليهم سؤالُ أهل العلم من الصادقين، وعدم إلغاء عقولهم، والانصياع دونما عقلٍ وراءَ العاصين، وخلف الفاسدين، الفاسقين، إما جهلا، وإما خوفا، وإمَّا تحت أيِّ سبب آخر؛ ومِنْ هنا فعلى معلِّمي التجويد، وأهل الأداء من حفاظ القرآن الكريم، ومحفِّظيه أن ينبهوا مَنْ تحت أياديهم على تلك القواعد المهمة، والوقفاتِ الممنوعة، وسبب المنع فيها، ويشرحوا لهم تعلقَها المعنوي، واللفظي، وأن الحكم يكتمل بتواصل التلاوة، واستمرار القراءة، وعدم الوقف على الكلمة التي وضع فوقها (لا)، أي لا تقف، وبيان المعنى الكلي، والإجمالي الذي يقف خلف تلك العلامة، وإيضاح القاعدة النحوية المرتبط بها هذا الوقفُ الممنوعُ، ليفهم المتعلم ما يدور حوله، ويتعرف جمالَ، وجلالَ، وكمالَ، وإعجاز الكتاب الكريم، ويقف على ظل الوقف، ومعناه، ودلالته، وفحواه.
وثاني تلك الآيات هو قولهتعالى:(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل 30 ـ 32).
والوقفان هنا في آية واحدة، هي الآية رقم:(32)، يتعانقان، الوقف الأول فوق كلمة: (طيبين)، والوقف الثاني فوق كلمة (عليكم)، فالوقف على (طيبين) حسب رأي بعض علماء الوقف ممنوع حيث إنه حال ومرتبطة بما بعدها لاستكمال المعنى، أي: أنهم طيبين قائلين سلام عليكم، أي: تتوفاهم طيبين أنقياء وفي الوقت نفسه يبشرونهم بقولهم:(سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)، فهو من تتمة كلام الملائكة لهم يبشرونهم به، ويخبرونهم برحمة الله عليهم وفضله بهم، فالملائكة عندما يتوفونهم يتوفونهم طيبين في وضع راق جليل من عمل صالح وذكر وتسبيح وسجود أو تلاوة أو دعاء أو حج أو صيام أو صلاة أو نحوها مما يوصف معه صاحبه بالطيب والصالح والنقي والتقي، وهم في لحظة تلك التوفية وهم يجدونهم طيبين، يقولون لهم ما يسعدهم ويخفف عنهم سكرات الموت وآلامها، والوجل منها وفزع القلب وفَرَقِه، فهم يوافونهم بالبشرى العاجلة، ويسلمون عليهم ويلحقون سلامهم بأنهم قد كتب لهم السعادة والخلود في الجنة جراء أعماله الصالحة واستدامتهم عليها، وتواصل صلاحهم للحظة موتهم وتوفيتهم آجالهم، فطيبين حال منصوبة ولا يوقف على الحال دون عاملها وصاحبها، فإن ذلك من قواعد الوقف والابتداء كما أن تعدد الحال وارد في النحو، كما أقول:(لقيت زيدًا صاعدًا باسمًا، ومنحدرًا باكيًا)، و(حضر علي ماشيًا ذاكرًا لله قارئًا بعض السور القرآنية)، و(مضت بسمة ضاحكة، مستريحة النفس، موفورة السعادة)، و(جاء خالد مسرعًا لهثًا مناديًا أخاه)، وهكذا، فتعدد الحال جاء في تلك الآيات الكريمات من الملائكة، الأولى من المتوفين من الناس، والثانية من الملائكة، ومعلوم صاحب كل حال منهما، ولا يوقف ـ كما سبق ـ بين الحال وصاحبه مهما تعدد، ولا بين الحال وعاملها، وهي قواعدُ نحويةٌ لا بد أن تستحضر مع القارئ وخصوصًا معلم التجويد، بحيث يكون قد انتهى منها، وحصَّلها، ووقف عليها، وأدرك معناها، وأثرها في قضية الوقف، وبعض العلماء أجاز الوقف على:(طيبين)، والبدء بـ(يقولون)، وحجته انفكاك الجهة، فالمتوفون يتوفون طيبين، والملائكة جنس آخر هم الذين يقول:(سلام عليكم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)، فالجهة منفكة، ويجوز الوقف كأنه وقف(صلي)، يجوز الوقف والوصل أولى، فقوله كذلك يكاد يقترب من الوقف الممنوع لإتمام المعنى بالوصل.
ولعل من قال بالجواز نتركه يوضحُه لنا، وهو العلامة الأشموني في كتابه:(إيضاح الوقف والابتداء)، حيث يقول بالجواز فقط حالة الاستئناف، ويقول بالمنع حال تعلقه بما بعده، وذلك كما يأتي:الوقف على:(طيبين) جائزٌ، ولكنْ على استئناف ما بعده، وليس بوقف إنْ جعل ما بعده متعلقًا بما قبله، و(طيبين) حال من مفعول الفعل:(تتوفاهم)، كما أن الوقف على:(سلام عليكم) ليس بوقف، لأن جملة:(ادخلوا) مفعول (يقولون)، أي: تقول الملائكة: (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون)(أ. هـ).
وقد أوضح أحدُ العلماء سببَ المنع بقوله: وفى سبيل الوصول إلى لطائف منع الوقف هنا نسأل هذا السؤال: لماذا يمتنع الوقف على كلمة (طيبين) في هذه الآية الكريمة؟، والجواب من وجهين، الأول: أنه حال من الضمير:(هم) في قوله:(تتوفاهم) و(يقولون) هي حال كذلك في محل نصب من (الملائكة)(أ. هـ)، وذلك لأن الجمل بعد المعارف أحوال، أيْ حالة كونهم يقولون مسلِّمين عليهم، ومبشريهم بموعود الله، والحال بيان هيئة حصول الفعل في الحال، فهم بتواصل الوقف يعجِّلون بالبشرى، ولا يؤخرونها عنهم، وفي ذلك إكبار لهم، ورفع لمقامهم أمام الناس، حيث يرون الملائكة تبشرهم، وتهنئهم، وتسارع ببيان وعد الله لهم على مرأى، ومسمع من البشر، وفي هذا بيان كمال منزلتهم عند ربهم، فكما سبق أن الأولى:(طيبين) حال من المفعول، وهم المتوفون، والثانية:(يقولون) حال من الفاعل، وهم(الملائكة)، والحال وصف في المعنى لصاحبها، وهو هنا الفاعل المستتر في (طيبين)، وواو الجماعة في(يقولون)، والفاعل عمدة فى الجملة، وإذا فصل عن صاحبه بالسكوت عقب ذكر وصف المفعول كان في ذلك نوعُ إخلالٍ بكمال البيان؛ لذلك لا يُقْرأ هنا، أو يوقف على:(الذين تتوفاهم الملائكة طيبين)، ثم يسكت القارئ، ثم يقول بعد لحظة:(يقولون سلام عليكم)، وإنما الأصوب أن يواصل تلاوة الآية بلا فاصل زمني بين صاحب الحال (الملائكة)، وبين الحال (يقولون)، وثّمَّ إشارة أخرى من الإشارات البلاغية سبق أن جاءت ضمن تحليلي، وهي أنه فى منع الوقف هنا له مزية كذلك، وهى: بيان الإسراع إلى ذِكْر البشرى التي يبشِّرهم بها الملائكةُ، يبشرون بها من يتوفونهم من عباد الله الصالحين، وهذه البشرى تتكون من جزءين، الأول: التسليم عليهم: (سلامٌ عليكم)، والثاني قولهم:(ادخلوا الجنة)، فالوقف على (طيبين) يؤخر هذه البشريات بمقدار زمنِ الفصلِ السكوتيِّ بين كلمتيْ: (طيبين) و(يقولون)، وللزمن فى علم البلاغة ميزانٌ دقيق، حساس، ذو شأن عظيم .
وخلاصة القول في هذا الوقف: أنه مرتبطٌ بقاعدة الحال، وأن الحال تُسْتَوْفَى، وإنْ تعددت، ولا يوقف على حال واحدة في الوقف الأتمِّ حتى تستوفيَ أختها، وأخواتها، ويكتمل المعنى الكليُّ المقصودُ من الآية، ويقف القارئ على تمامه، وكماله، فيتعرفُ طبيعة الفضل الإلهي على عباده، كما أن الحال مع عاملها، وصاحبها كالشيء الواحد، وكلها قواعدُ نحوية تضيء الطريقَ للقارئين لكتاب الله، وتبيِّن جلال المراد، وكمال المقصود، وشامل رحمة الله بعباده.
ونواصل الحديث حول الوقف الممنوع في سورة النحل في لقاء قادم، إن شاء الله، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرةبجمهورية مصر العربية.
[email protected]