سامي السيابي:
كل إنسان له بصمة أخلاقية لا تتماثل مع صفات الآخرين، فكل فرد بنسخته المنفردة غير المطابقة لبصمة أحد، وإن تقاربت الصفات، تمامًا كما تباينت القدرات العقلية والجسدية بين ذا وذاك، ولكن من أين تكونت تلك البصمة وكيف تشكلت فيما بعد؟.
ذكرنا آنفًا أنّ كيمياء النفس مكون من خليط الأخلاق، الطيبة وغير الطيبة، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس 7 ـ 8)، وهي في تفاوت مع الطبع الممزوجة معه،ويعود ذلك الطبع إلى الكم العنصريالمادي الذي تتألف منه الأجساد، كالماء والحديد والفسفور والكلس إلى جانب العناصر الأخرى التي تتشكل منها الطينة الترابية لكل شخص، يمكن أن نطلق عليه النسب الترابي، الذي يكوّن الطبع الخاص، حيث تتأثر الطباع بالعناصر الترابية الموجود في الجسد وهي التي تميز بين مخلوق وآخر، من ناحية القدرات الفكرية والتخيلية والتوهميةوالتذكرية وبالقدرات والصفات النفسية والجسدية، ومنها مقدار الإحساس الجسدي واللذة والألم ومقدار القوة الجسدية، ويشار إلى ذلك بقول الخالق تبارك وتعالى:(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) (الإنسان ـ 76)، فالأمشاج مشتق من المشج وهو الخلط، أي نطفة مخلوطة، قال تعالى: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) (يس ـ 36)(وذلك يفسر معنى الخلط الذي أشير إليه هنا، وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيمائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى الحياة) (التحرير والتنوير ـ ابن عاشور).
ومن الملاحظ على تأثير تلك العناصر هو اختلاف الناس في مركبهمالطبعي بين الخوف والطمع والصبر والأناة والسرعة والغضب والحلم والشجاعة والجبن والضجر والأنانية وحب الحق والانفرادية والانعزالية والتبعية والعجب بالنفس والغرور والقيادة والانقيادية والحب والكراهية، ومختلف الشهوات كشهوة البطن وشهوة الفرج وشهوة السمع وشهوة البصر؛ ومقادير الإحساس كالإحساس بالألم والإحساس باللذة ونسبة الانفعالية والفاعلية؛ ونصيب الجسد من خصائصه المختلفة كالقوة والضعف.. وغيرها.
نعم يجتمع الناس مشتركين في تكوينهم على الصفات العامة الأساسية، وهي الصفات التي اختار الله بها الآدميين في إعمار أرضه، وتندرج تلك الصفات العامة من مقتضى الأمانة في مفهومها العام، (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب ـ 72)، ثم يفترقون في معادنهم على أصناف، ويلحظ هذا التباين بين قوم اشتهروا بأخلاق معينة تختلف عما يشتهر به آخرون، قال أَبَو بَرْزَةَ:(بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ رَجُلًا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَسَبُّوهُ وَضَرَبُوهُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ، مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ) (رواه مسلم)،وكذلك يلحظ منتباين تلك الخصائص داخل القوم إلى خصائص فردية، فعَن أَبِي هُرَيرة، عَن النَّبِيّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم) قال:(الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا) (رواه البزّار).
وهذا التكوين الخلقي يصاحب الإنسان في كل أحواله؛ولذلك ينبغي تعيين موضع الذرية قبل الإقدام على الزواج، فمن هنا تبدأ التربية الأخلاقية، من مرحلة اختيار الوعاء الحاضن، أي من وقت اختيار الزوج، ثم لما تتكون الذرية ينبغي أن يوضع في الحسبان واقع الفروق الطبْعية بين الأولاد، فعلى أساس فروقها يتعامل، وكذلك يراعى كل مربي في مدرسته.
ويجدر بالتذكير أنه مهما تفاوتت الطبائع ومهما اكتسب من خلق فإنه لا يتنافى مع قابلية التغيير كما تحدثنا في الحلقة الفارطة، والتغيير يعتمد على الاستعداد والإرادة والتدرب حتى تتحقق صيرورة العادة على أمل بلوغ الملكة، ووفق هذا الأساس أسس الإسلام الخطط التربوية التي يتزود بها في التربية على الفضائل الخلقية، ويراعى نسبة الاستعداد من شخص لآخر، فقد يقبل بعض فضائل بسهولة، ويقبلها آخر ببطء بمعالجة طويلة.
إنّ التوجه الإسلامي ليس بمنأى عن بوصلة الطبائع، ولا يمارس إلغاءها أو استئصالها بحال، ليضع في مكانها طبائع جديدة خارجة عن الأمور الفطرية، ولكن لجأت التربية الإسلامية إلى التربوية النافعة في التقويم والتنمية والتهذيب والتشذيب.
وفي الاختلاف الطبعي ذات المدى المتباين بين الناس واختلاف نماذجهم لا يمكن بحال اتخاذ طريقة تربوية موحدة، فكل نموذج طبعي وما يناسبه من وسائل تربوية، فمثلا حاد الطبع الغضوب تلائمه أساليب تربوية مختلفة عن بارد الطبع بليد الإحساس، وتمرير وتيرة التربية على نفس الوتر لكليهما قد يفسد الآخر.
ولنا في رسول الله أسوة حسنة في مراعاة الفروق الطبعية، فكان يعطي بعض محبي الفخر ـ مثلًا ـ تعاملًا يرضي نفوسهم بهدف إصلاحهم، كما أعطى أبا سفيان شرف الأمن لمن دخل بيته يوم الفتح، وأعطى بعض محبي المال شيئا مما يرضي نفوسهم.. كل ذلك بهدف إمالتهم للصلاح، وروى البخاري عن عمرو بن تغلب (أن رسول الله أتى بمال فقسمه، فأعطى رجالًا وترك رجالًا، ولما عتب عليه الذين منعهم علل أنه رأى في قلوبهم من الجزع والهلع)، وأن الذين منعهم أحب إليه، فهؤلاء الأخيرين يناسب طبعهم محبة الرسول الراسخة. وكذلك كان يعامل حديثي العهد بالإسلام بخلاف معاملة الذين رسخ الإيمان في قلوبهم، ومن ذاك قال: (فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ، وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ) (رواه البخاري ومسلم والبيهقي وأبو يعلى والطبراني).
مع الأخذ في الاعتبار أنّ بذور الطبائع قابلة للإنماء والحد من ذلك الإنماء، وقابلة للتهذيب، بل التغيير رأسا، فصاحب الطمعـ مثلًا ـ يمكن أن يفرط في شرهة إذا ما احتضنته بيئة تربوية تغذي طبعه هذا، وإذا كانت البيئة معتدلة يتوقع أن تحد من طبعه، أو يتهذب إلى أدنى الحدود، مع استعمال وسائل تربوية مصاحبة معينة، وكذا تتغير طبيعة الجبن إلى شجاعة والبخل إلى كرم، وسائر الطباع.
كاتب عماني