سعود بن علي الحارثي:
عندما أزور العديد من دول العالم، وبعضها بلدان خليجية مجاورة، يلح عليَّ السؤال ذاته، الذي لا يفتأ يشغلني ويقلق مضجعي: كيف استطاعت أن تحقق هذا النجاح بتحولها لتصبح وجهات سياحية جاذبة، وأن تجعل من لا شيء، ذا قيمة عالية جدا وبهذا الجمال الساحر، الذي يفتن المواطن والسائح والزائر، فيشجعه ويحثه على تكرار السفر إليها مرات ومرات للاسترخاء والاستجمام، ومستثمرا، ومتسوقا، ولائذا إليها بأمواله الضخمة، وباحثا عن فرص مدركا بأنه سيحصل عليها دون شك؟ كيف تحولت بعض المدان من صحراء قاحلة ورمال ملتهبة وأماكن يستحيل العيش فيها بسبب قسوة الطقس ورعونة الأرض وخلوها من المياه العذبة ومفاتن الطبيعة وأي مكنات لجذب سياحي... إلى منتجعات ومتنزهات سياحية خضراء ومجمعات تسويق حديثة وأبراج سكنية ومدن عصرية ذكية وخدمات وشبكات وأساليب عيش متطورة تحتوي على كل وسائل وأدوات وأسباب الراحة والجمال والإغراء... فيما تمتلك عُمان واحات النخيل، والمدن التاريخية، والقرى والحارات القديمة والقلاع والحصون والأفلاج والأودية الجارية، والرمال الذهبية وشواطئ بحري العرب وعُمان الطويلة، والجبال الشاهقة والمنحدرات والأخاديد الخطرة والطقس والطبيعة المتنوعتين والتاريخ والثقافة والفنون بثرائها وتنوعها وامتدادها في الماضي السحيق وعصور تطورها ونمائها والإضافة والبناء عليها بما يعزز ويعلي من شأنها وقوة تأثيرها... فلماذا لم نتمكن حتى اليوم من المنافسة الجادة والشرسة في القطاع السياحي؟ ولم نحقق طموحات الدراسات والرؤى والاستراتيجيات والخطط المعدة منذ عقود ليكون للسياحة عائدها المُرضي والمحقق للأهداف المأمولة والموضوعة في الناتج المحلي للسلطنة؟ لماذا نهدر كل الفرص والمكنات والثروات التي تمتلكها عُمان في مجال السياحة؟ عندما كنت في دبي قبل أسابيع في زيارة استجمامية قصيرة برفقة أفراد أسرتي، ظللت أسابق الزمن لأتمكن من الاستمتاع بما تسمح به الليالي الأربع لزيارة أكبر عدد من المناطق وأماكن الجذب السياحي، بعد انقطاع استمر لأربع سنوات لم أزر فيها هذه الإمارة الفاتنة، كنا نتنقل من معرض "إكسبو"، المعروف، الذي يستقطب العالم باستثماراته وأمواله إلى دبي، ونتوجه بعده إلى المجمعات التجارية الفخمة والعملاقة، التي لا يشبه أحدها الآخر في شيء إلا في المزيد من الحيرة والإدهاش في أيها أكثر فخامة وازدحاما بالبشر وأبهة وإثارة لإعجاب واستقطاب الزائرين والمحقق لرضاهم وتطلعاتهم، ومنها نمضي قدما إلى الأسواق الشعبية التي تزورها أفواج من المتسوقين والتجار من قارات العالم للتبضع والتسوق بالجملة والمفرد، والتي لم تؤثر في نشاطها التجاري وحركة الباعين والمشترين والمستثمرين والباحثين عن المال، العقود والسنون الطويلة، بل أضافت عليها نماء ونشاطا وتألقا وازدحاما، إلى عالم "المارينا" العجيب في تكامله وشموليته وسعته واحتوائه على كل ما يريده ويشتهيه الإنسان ويرضي فضوله ويشبع هواياته من مماشٍ وأسواق وترفيه وفنادق ومتطلبات الاستجمام وعناصر الجمال... فإلى النماذج التي تحاكي قرى الغرب الأميركي والمدن العالمية الشهيرة والحواضر التي طافها الرحالة "ابن بطوطة"، والمطاعم والمقاهي العصرية التي تلبِّي كل الأذواق وتنتمي إلى ثقافة وأطعمة معظم البلدان، بضعة ليالي كنا فيها أسرى عالم عجيب من الترفيه ومناطق الجذب والاستجمام والأنشطة الرياضية والفعاليات الثقافية، والأبراج والعمارات والقصور والفنادق العملاقة التي تصيب كل من يزور هذه الإمارة بالافتتان والاندهاش والاستغراب، تصميما وتنوعا وتفردا واستثناء في العمارة والفخامة والأبهة... وتساؤلا لا يتوقف عن إزعاج العقل، كيف تحولت هذه الإمارة الصغيرة من لا شيء لتقدم لكل من يقدم إليها كل شيء وما يحتاجه ويرضي شغفه وفضوله ويحقق راحته واستجمامه؟ فيما تتوفر لدينا كل ملكات ودعامات ومقومات السياحة... فلم نستثمرها بما تستحقه، وبما تقدمه من مفاتن وجمال خلاب؟ وبعد إنهاء زيارتي لدبي بأيام، تلقيت رسالة شخصية من الأخ "عبد الله بن عزام الدخيل" المتحدث الرسمي للهيئة السعودية للسياحة، يدعوني فيها لزيارة مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، أضمنها في هذا المقال، للتأكيد والتدليل على اهتمام دول العالم، بالسياحة واستقطاب الكتاب والمثقفين للدعاية لها والتسويق للبلد وما يقدمه من عروض وامتيازات سياحية، "الأستاذ الفاضل/ سعود الحارثي، حاولت الاتصال بسعادتكم للسلام عليكم أولًا، ثم لتوجيه الدعوة لتشريفنا بزيارة ضمن برنامج تنظمه "روح السعودية" مخصص لكبار قادة الرأي والفكر من دول الخليج لزيارة الرياض، والاستمتاع بما تشهده هذه الأيام من فعاليات عالمية ومتنوعة في موسم الرياض، آمل أن تجدوا متسعًا من الوقت لقبول دعوتنا الخاصة بكم وتشريفنا في الرحلة التي ستكون في الأسبوع الأخير من نوفمبر"، وقد لبَّى الدعوة عدد من الإعلاميين والكتَّاب العمانيين. وقبل ذلك بفترة، أخبرني صديق كان في مهمة رسمية في دولة خليجية ثالثة، عن الاستعدادات المكثفة والجهود النشطة والخطط والبرامج السياحية التي تنفذ؛ سعيا لاستثمار الموسم السياحي وضمان تحقيق منافسة طبيعتها الابتكار والتجديد والتميز والإدهاش، وتنظيم الفعاليات والنشاطات الثقافية والتسويقية، وتقديم حزمة من العروض والامتيازات الجاذبة والمحفزة على وصول أكبر عدد من السياح إلى أراضيها، فالدول تعي وتدرك بأن هذا القطاع الحيوي يعطي بلا حدود وتنمو موارده وتنتعش النشاطات التي تعتمد عليه. إنها نماذج مختصرة وأمثلة بسيطة لهذا التدافع والتزاحم والتنافس والابتكار لإيجاد سياحة ناجحة. فالعالم إذن يعلن ويسوق ويروج ويعمل بكل طاقاته بصوت عالٍ وليس بصمت. في إجازة الأعياد الوطنية السنوية، وتكرارا للمشهد منذ أكثر من عقدين ونصف العقد، وعلى زخم طوابير السيارات وحركة المواطنين المغادرين للبلاد إلى دول مجاورة أو بعيدة، لقضاء فترة الاستجمام القصيرة، وحالة الإحباط والغضب التي تتراكم وتحتشد في صدور الشريحة التي تقضي إجازتها في المواقع والأماكن السياحية داخل البلاد، بسبب غياب ونقص الخدمات وإهمال مقوماتها ودعاماتها وتركها لعبث الزمن دون صيانة واستثمار وتهيئة وإعداد، مثل، الحارات والقلاع والحصون والقرى والعمارات القديمة والأفلاج والعيون والأودية والسدود والشواطئ والطبيعة الخلابة... التي تنقصها الاستراحات والمقاهي والمطاعم وملاعب الأطفال والمماشي والمظلات ودورات المياه وعناصر الجمال والجذب بمختلف صورها وأشكالها، وغلاء الفنادق وارتفاع أسعارها بشكل مبالغ مقارنة بدول سياحية لها حضورها العالمي، تمضي السنون وتتكرر الإجازات والمواسم السياحية دون تطور ملموس وواضح ومُرضٍ في القطاعات والأنشطة والمجالات السياحية، وتجاهل غريب لما لهذا القطاع الحيوي من انعكاسات إيجابية على الاقتصاد الوطني في تعظيمه للموارد وتوفيره للوظائف وتنشيطه للأوردة الاقتصادية الأخرى. فحتى متى سيظل القطاع السياحي في عُمان محلك سر؟ وهل ستتحقق توقعات وكيلة وزارة التراث والسياحة للسياحة، التي أطلقتها قبل أيام قليلة، بأن سلطنة عُمان سوف "تجني أكثر من تسعة مليارات ريال عماني سنويا من عائدات السياحة بحلول عام 2040"؟ أم أن الأمر لا يعدو أكثر من تصريحات وتدشينات برع فيها مسؤولونا وأتقنوا فنها على مدى سنوات، لم تسفر إلا عن مزيد من تراجعات الثقة بينهم وبين المجتمع؟